حان وقت «نزع عسكرة الإرهاب» في إفريقيا

يكشف أحدث مؤشر إلى شدة الإرهاب في العالم عن تصاعد العنف في بؤر الإرهاب الساخنة في إفريقيا، إضافة إلى زيادة خطر وقوع هجمات إرهابية في العديد من البلدان في جميع أنحاء المنطقة، بما في ذلك بعض البلدان التي كانت تُعتبر آمنة نسبياً في السابق. لقد أضحت إفريقيا جنوب الصحراء اليوم موطناً لسبعة من أكثر 10 مواقع خطرة في العالم، وذلك استناداً إلى بيانات تم جمعها عن 198 دولة، ما يجعلها المنطقة الأسوأ أداءً في محاربة الإرهاب على مستوى العالم.

وتُشير هذه البيانات - كذلك - إلى أن تمدد وفاعلية الجماعات الإرهابية في إفريقيا آخذان في الازدياد. فقد شهد الربع الأخير من العام الماضي - على الرغم من جائحة «كوفيد-19» - ارتفاعاً بنسبة 13% في الحوادث الإرهابية عبر القارة، مقارنة بالفترة السابقة. ولا شك أن مسار هذه الاتجاهات يعد سبباً رئيساً للقلق حول نجاعة استراتيجيات محاربة الإرهاب على مختلف الصعد الوطنية والإقليمية والدولية. ولعل أبرز مثال على التمدد الإرهابي في العمق الإفريقي، وخلق بؤر ملتهبة جديدة، قيام الولايات المتحدة في 11 مارس 2021، بوضع الجماعة المسلحة الأوغندية، المعروفة باسم «القوات الديمقراطية المتحالفة»، التي تنشط في جمهورية الكونغو الديمقراطية منذ منتصف التسعينات، على قائمة الجماعات الإرهابية المرتبطة بتنظيم «داعش».

مطالب نزع العسكرة

طبقاً لتقرير حديث للبنتاغون، أعده مركز إفريقيا للدراسات الاستراتيجية، وهو مؤسسة أبحاث تابعة لوزارة الدفاع الأميركية، فإن الوضع الأمني في القارة يدعو إلى القلق الشديد، حيث يُظهر ارتفاعاً بنسبة 43% في عمليات الجماعات المسلحة المتشددة، وزيادة حادة في أحداث العنف خلال عام 2020، وهو ما يؤكد منحى التصعيد المتواصل خلال العقد الماضي. طوال نحو عقدين من الزمان كانت قوات العمليات الخاصة الأميركية تخوض حرباً سرية - في معظمها - عبر مختلف أرجاء القارة الإفريقية، حيث تعاونت مع حلفاء محليين ضد عدد كبير من الجماعات الإرهابية العنيفة.

وعليه، فقد شكك كثير من الخبراء في الفرضية الأساسية لجهود مكافحة الإرهاب الأميركية في القارة الإفريقية، حيث تمت المطالبة بتوجيه الأموال المخصصة للكوماندوز الأميركيين في إفريقيا، من أجل إنفاقها بشكل أكثر فاعلية في مجالات المساعدات الإنسانية والتنمية الاقتصادية في البلدان التي يتزايد فيها خطر العنف المتطرف.

وإن زيادة معدلات التطرف الإرهابي العنيف في القارة تُشير، بما لا يدعو للشك، إلى عدم إحراز قيادة العمليات الخاصة الأميركية في إفريقيا أي تقدم في إضعاف بنية الجماعات الإرهابية والحد من أنشطتها العنيفة.

ويشير تقرير «البنتاغون» إلى جملة من النتائج المذهلة عن الجماعات الإرهابية في جميع أنحاء القارة الإفريقية. وتشمل هذه الجماعات أذرع تنظيم «داعش» الإرهابي في ليبيا والجزائر ونيجيريا، والجماعات الموالية لها في تونس والمغرب والصومال وكينيا وجمهورية الكونغو الديمقراطية وجنوب إفريقيا، ودول الساحل، وكذلك تنظيم «القاعدة» في بلاد المغرب، و«حركة الشباب» في شرق إفريقيا.

وتؤكد الوثائق أن هدف قيادة القوات الخاصة في إفريقيا كان يتمثل في تعطيل والحد من حركة «القاعدة» والمنظمات المتطرفة العنيفة المنتسبة إلى «داعش» في شرق إفريقيا، وحوض بحيرة تشاد، والساحل، والمغرب العربي، من خلال التعاون مع شركاء أفارقة وغربيين. ومع ذلك وجد التقرير أن الجماعات الإرهابية لم يتم النيل من قدراتها وتعطيلها على مدى العامين الماضيين، بل ما حدث هو العكس تماماً. لقد ازداد عدد ضحايا هذه الجماعات المسلحة بمقدار الثلث مقارنة بالعام السابق، كما شهدت المناطق التي تثير قلقاً رئيساً لقوات الكوماندوز الأميركية مثل الصومال، ومنطقة الساحل، وحوض بحيرة تشاد بعضاً من أكثر الزيادات في معدلات العنف على مستوى القارة.

على الرغم من العمليات البرية من قبل القوات الخاصة الأميركية والشركاء الصوماليين، إضافة إلى أكثر من 200 غارة جوية منذ عام 2017، فإن «حركة الشباب» لاتزال تمثل أكبر شبكة لتنظيم «القاعدة» وأكثرها نشاطاً وفاعلية في العالم. اتضح ذلك في زيادة أنشطة العنف التي تورطت فيها «حركة الشباب» خلال العام الماضي بنسبة 33%، إضافة إلى زيادة المعارك التي خاضها الشباب وقوات الأمن في عام 2020 بنسبة 47%.

«أفرقة» محاربة الإرهاب

في 16 فبراير 2021، عُقدت قمة مجموعة دول الساحل الخمس (التي تضم موريتانيا ومالي وبوركينا فاسو والنيجر وتشاد)، وشارك فيها الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، بشكل افتراضي. وربما تشكل هذه القمة نقطة تحول كبرى في استراتيجية فرنسا لمحاربة الإرهاب في الساحل الإفريقي. إذ بعد أكثر من ثماني سنوات من التدخل العسكري، تجد فرنسا نفسها في المأزق الأميركي نفسه في أفغانستان. ربما يدفعها ذلك إلى تخفيف وجودها العسكري في المنطقة، مع التركيز - في المقابل - على دور الحلفاء المحليين والدوليين. لم يتدنَّ التأييد الشعبي الفرنسي لعملية برخان من قبل بالدرجة السائدة نفسها اليوم.

قد أظهر استطلاع للرأي، أجراه المعهد الفرنسي للرأي العام في أوائل يناير 2021، أن 51% من الفرنسيين فقدوا دعمهم للتدخل العسكري في منطقة الساحل. يعني ذلك أن الحكومة الفرنسية تواجه أدنى مستوى للدعم الشعبي منذ أن بدأت حملتها في الساحل قبل ثماني سنوات. وتم التعبير عن هذا القلق العام بشكل واضح عندما دعا المجلس الوطني ومجلس الشيوخ إلى مزيد من النقاش حول مستقبل الدور الفرنسي في منطقة الساحل.

المثير للتأمل هو أن هذا التحول الفرنسي صوب الانسحاب التدريجي يأتي في أعقاب نشر 600 جندي فرنسي إضافي في منطقة الساحل، ليصل عدد قوة برخان إلى 5100. وذلك تطبيقاً لمقررات قمة يناير 2020 في باو الفرنسية. خلال هذا العام المنصرم، فقدت فرنسا 12 جندياً إضافياً (ليصل إجمالي خسائرها البشرية 57 شخصاً منذ بداية تدخلها في يناير 2013) في حرب تبدو - من وجهة نظر مواطنيها - وكأنها لا تنتهي أبداً.

ويعكس هذا النهج الفرنسي الجديد - في جوهره - تحركاً باتجاه «أفرقة» الصراع وأساليب مواجهته في الساحل. ترغب فرنسا من دول الساحل تعزيز مناهجها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لمعالجة جذور التطرف العنيف. لتحقيق ذلك، يجب أن تكون دول الساحل قادرة على استعادة السيطرة الكاملة على أراضيها وتحقيق الاستقرار السياسي. ولا شك أن هذا الهدف يمثل جوهر مشكلة التطرف والإرهاب في المنطقة، حيث تعاني الدولة في منطقة الساحل الهشاشة والضعف العام.

ولعل ما يزيد الأمور تعقيداً، أن جزءاً كبيراً من سكان الساحل الذين يُفترض أنهم مستفيدون من الحملة الدولية لمحاربة الإرهاب بقيادة فرنسا ينظرون إلى الوجود العسكري الفرنسي على أنه شكل من أشكال الاحتلال الاستعماري الجديد. قد لا يكون هذا رأي الأغلبية الشعبية، ولكن عادةً ما يتم تضخيمه عبر التغطية الإعلامية الواسعة والاحتجاجات المتكررة، خصوصاً في مالي، حيث يكون الوجود الفرنسي أكثر وضوحاً.

تصاعد العنف العرقي

لقد أدت سياسات مكافحة الإرهاب في مواجهة الجماعات المسلحة العنيفة إلى ظهور ميليشيات عرقية محلية. ونتيجة لذلك، تفاقمت التوترات الطائفية والعرقية، لاسيما بالقرب من مثلث الحدود بين مالي والنيجر وبوركينا فاسو. ومن المعروف أن هذه الدول الثلاث تواجه انتشار أعمال عنف متطرفة مميتة من قبل تنظيمي «داعش» و«القاعدة»، التي أودت بحياة الآلاف وشردت مئات الآلاف، على الرغم من وجود القوات الإقليمية والدولية. في يناير 2021، قُتل ما لا يقل عن 100 شخص في قريتين في النيجر، وذلك وسط أجواء الانتخابات الرئاسية في البلاد.

وقد تكرر الأمر نفسه في شهر مارس 2021 بعد إعلان فوز محمد بازوم بمنصب الرئيس، حيث قام مسلحون على متن درّاجات نارية بمهاجمة سلسلة من القرى بالقرب من حدود النيجر المضطربة مع مالي، ما أسفر عن مقتل ما لا يقل عن 137 شخصاً في أعنف هجمات تعيها الذاكرة الحديثة. ولا شك أن هذه النتائج الكارثية لمناهج مكافحة الإرهاب في الواقع الإفريقي جعلت هناك شبه اتفاق عام على أن سياسة مكافحة الإرهاب الغربية في منطقة الساحل تعتمد على العسكرة المفرطة، وأنها اتسمت بعدم الفاعلية. وعليه يقترح الجميع بما في ذلك الولايات المتحدة وفرنسا، ولو بلغة متفاوتة قليلاً، أن هذه السياسة يجب «إعادة التوازن» إليها، أو «إعادة التفكير فيها»، للتأكيد على قضايا الحوكمة والحلول السياسية، بما في ذلك «التفاوض مع الإرهابيين».

منحى الأمننة

يبدو من المرجّح أن الممارسة العملية لاتزال تؤكد منحى الأمننة في مواجهة الإرهاب، حيث إن المؤسسات المستثمرة في الحلول العسكرية لها تأثير أكبر بكثير بسبب ثقلها البيروقراطي والافتراضات الرائجة، كتلك القائلة إن النجاح العسكري وهزيمة الإرهابيين يجب أن يأتي أولًا. إن الاهتمام بواقع الحكومات الوطنية وسياق المجتمعات المحلية يأتي بشكل موسمي، ولا يحظى بالأولوية في عقيدة مكافحة الإرهاب المدعومة دولياً. بيد أن خبرة السنوات الماضية تشير إلى وجود دوافع قوية لواضعي السياسات للتخلي عن نزعة العسكرة ليس بحسبانها غير فاعلة فحسب، ولكن لأنها غالباً تُفضي إلى مزيد من أعمال العنف.

• طبقاً لتقرير حديث لـ«البنتاغون»، أعده مركز إفريقيا للدراسات الاستراتيجية، فإن الوضع الأمني في القارة يدعو إلى القلق الشديد، حيث يُظهر ارتفاعاً بنسبة 43% في عمليات الجماعات المسلحة المتشددة، وزيادة حادة في أحداث العنف خلال عام 2020.

• لقد أدّت سياسات مكافحة الإرهاب في مواجهة الجماعات المسلحة العنيفة، إلى ظهور ميليشيات عرقية محلية، ونتيجة لذلك تفاقمت التوترات الطائفية والعرقية، لاسيما بالقرب من مثلث الحدود بين مالي والنيجر وبوركينا فاسو.

 

الأكثر مشاركة