كتاب جديد يستكشف محاولات الصحوة الشيعيّة في العراق منذ عام 2003

رؤية أميركية لأدوار زعامات الشيعة في مرحلة ما بعد «صدام»

صورة

إن علاقة الدين بالدولة تُعدّ أحد أبرز الموضوعات، التي تثار عند الحديث عن المستقبل السياسي للدول في منطقة الشرق الأوسط. ويمثل العراق نموذجاً مهماً في هذا الإطار منذ الغزو الأميركي في عام 2003، وما ارتبط به من تفاعلات متعددة، كان تنظيم «داعش» الإرهابي أحد تجليَّاتها وإشكالياتها، خلال السنوات الأخيرة.

وفي هذا الإطار، تحاول «كارولين سايج» الأستاذ المساعد في العلاقات الدولية بكلية «كونيتيكت» بالولايات المتحدة، في كتابها «آيات الله الوطنيون: القومية في عراق ما بعد صدام حسين»، قراءة الصحوة الشيعيّة في العراق منذ عام 2003، وما ارتبط بذلك من أدوار سياسية لبعض الزعامات الدينية البارزة بعد القضاء على النظام البعثي الذي قام بتهميشهم بشكل كبير، وكذلك الصراع بين الدولة المدنية والدولة الدينية في إطار علاقة ما هو سياسي بما هو ديني.

الصحوة الشيعيّة

تشير المؤلفة إلى أن دولة العراق بعد عام 2003، وإسقاط نظام «صدام حسين»، بدت مواتية من أجل أن تقوم المرجعيات الدينية الشيعية في النجف بدور سياسي في ظل فراغ السلطة القائم. بيد أن ذلك كان يُواجَه بتحدٍّ رئيس، خصوصاً مع بروز الإرهاب الطائفي لتنظيم «القاعدة». لذا، قد حاول الشيعة تقديم أنفسهم كبديل «غير تقليدي» للتعامل مع الأوضاع الجديدة في البلاد.

وكان أبرز مثال على ذلك هو القيادي الشيعي «مقتدى الصدر»، الذي حاول تقديم رؤية للقيادة الشيعية خارج الحوزة في النجف، وكذلك خارج الخطّ الذي تريده إيران، ما أسهم في نجاحه بجذب عدد من الأتباع، حيث تجاوزت مطالبه - في كثير من الأحيان - مطالب الزعامات الشيعية التقليدية. لكنه - وفقاً للكاتبة - كان يتمتع ببعض الحماية، نظراً لتاريخ عائلته الديني.

وعلاوة على قيام أتباعه بارتداء اللون الأسود، وتقديم الدعم الواسع للفقراء الشيعة، ونشر تلاميذه في الأحياء الفقيرة، وتدشين صحيفة تابعة له من أجل كسب مزيد من النفوذ السياسي؛ فقد قام «الصدر» بتشكيل ميليشيا مسلحة تُسمى «جيش المهدي» أواخر عام 2003، لمواجهة القوات الأميركية، والقوات المتحالفة معها.

تكريس الطائفية

تشير المؤلفة إلى أن الولايات المتحدة حاولت صياغة سياسة تعتمد على التوازن بين القوى الدينية المختلفة، وذلك عبر تحقيق التمكين السياسي للشيعة وكذلك الأكراد ضد العرب السُّنة، حيث سعت إدارة «جورج دبليو بوش» خلال الفترة من عام 2003 حتى عام 2009 إلى ذلك بشكل حثيث؛ ما أدى إلى تحقيق اختلال في التوازن الطائفي بالعراق بعد إسقاط «صدام حسين».

وقد قامت الإدارة الأميركية عام 2003 بتعيين «بول بريمر» حاكماً مدنياً للعراق، حيث قام بحلِّ حزب «البعث»، والجيش، والمؤسسات العراقية، وأسس مجلساً من أجل معاونته ضم 25 عضواً بأغلبية شيعية. وبالرغم من ذلك، فقد كان المرجع الشيعي «آية الله علي السيستاني» يرفض مقابلة «بريمر»، أو أي شخصية من قوات التحالف في العراق.

وتُبرز المؤلفة أن إدارة «بوش» الابن اعتقدت أن عملية بناء الدولة وبناء الديمقراطية في مرحلة ما بعد «صدام» ستكون سهلة. وتشير إلى أن «السيستاني» كان من أبرز المعارضين لخطط «بريمر»، وتضيف أنه حاول تقديم نفسه للشعب العراقي كحامٍ للديمقراطية بعد عام 2003.

وعن المرحلة الانتقالية (2003-2006) تشير «سايج» إلى أن العملية السياسية كانت قائمة عبر نظام المحاصصة العرقية، والدينية، والهويات عبر الوطنية، بدلاً من مفاهيم المواطنة. وتضيف أن الإدارة الأميركية كانت تحاول القضاء على كل ما هو متعلق بالنظام البعثي، حتى إن «بريمر» اقترح مسودة لحظر الأحزاب السياسية المعارضة للاحتلال الأميركي من المشاركة في أي عملية ديمقراطية؛ ما نتجت عنه مواطنة انتقائية بامتياز.

وتذكر المؤلفة أن «السيستاني» عارض الرؤية الأميركية للعملية الديمقراطية، حيث رفض فكرة التعيين، وطالب بالانتخابات المباشرة، بالإضافة إلى المطالبة بمنح كل عراقي الحق في التصويت من أجل تشكيل حكومة تُعبّر عن كل الطوائف والهويات العراقية. وتبع ذلك إصداره فتوى لكل أتباعه بوجوب التصويت والمشاركة في انتخابات عام 2005، لاختيار أعضاء الجمعية الوطنية الانتقالية، التي كانت بمثابة مجلس النواب العراقي.

وفي هذا الإطار، تشير المؤلفة إلى أن «السيستاني» حاول تقديم نفسه كحامٍ للديمقراطية العراقية الوليدة، محاولاً التوفيق بين الدين من جانب، والديمقراطية من جانب آخر، من أجل الحصول على أكبر قدر من المكاسب السياسية.

وتوضح المؤلفة أن ظهور تنظيم «داعش» الإرهابي في العراق عام 2014، وقدرته على احتلال المدن، والسيطرة على مساحات شاسعة من الأراضي، كانت أموراً مثيرة للاهتمام والقلق من جانب الزعامات الشيعية في العراق وعلى رأسهم «السيستاني»، خصوصاً أن البيئة السياسية في ذلك الوقت، والتي كانت تتسم بالطائفية وتهميش العرب السُّنة وانتشار الفساد؛ شكلت حافزاً لانتشار التنظيم، ومحاولة استغلال الفجوة القائمة في الحكم من أجل فرض نفوذ داخل الدولة العراقية.

وفي خضم ذلك، برز خلاف كبير بين «السيستاني» وبين «الصدر» على الاستحواذ على أكبر نفوذ في العملية السياسية. بيد أن «الصدر» قد نجح في تحقيق مكاسب سياسية كبيرة، حتى إنه في عام 2015 كان له 34 نائباً في البرلمان العراقي المكون من 328 مقعداً، وكان منتقداً لكثير من سياسات الحكومة العراقية برئاسة «حيدر العبادي».

نفوذ المدن المقدسة

تشير المؤلفة إلى أن تحليل خطابات الزعامات الدينية الشيعية في النجف في مرحلة ما بعد «صدام حسين»، يكشف عن أن الدين جزء أساسي من التكوين السياسي العراقي، ولا ينفصل بأي حال عن الحديث عن الدولة؛ نظراً لأن المجتمع العربي والإسلامي يختلف بشكل كبير عن المجتمع الغربي الذي نجح في الفصل بين الكنيسة والدولة، حتى بات الدين مسألة شخصيّة.

وفي السياق ذاته، فإن ظهور الزعامات الشيعية مثل «السيستاني» و«الصدر» كفاعلين سياسيين، كان جزءاً من دمج الدين مع السياسة في العملية السياسية بعد إسقاط نظام «صدام حسين». بيد أنهم لم يختاروا الطريقة الإيرانية - مثلما حدث بعد ثورة عام 1979 وتدشين دولة دينية - بل طالبوا بدولة مدنية تحفظ سيادة الدولة العراقية بموجب القوانين الدولية.

وقد شَكَّل ظهور تنظيم «داعش» الإرهابي منذ عام 2014 حتى أواخر عام 2017، أحد الدوافع التي جعلت الزعامات الشيعية تحاول تأكيد الدولة المدنية، في ظل دعوة التنظيم إلى الدولة الدينية التي تُعيد «الخلافة الإسلامية» المزعومة. وبالتالي فإن ذلك التوجُّه كان تأكيداً على براغماتيّة الفكر الشيعي في العراق - وفقاً للكاتبة - إزاء بناء الدولة الجديدة.

وتؤكد المؤلفة أن ثمة معطيات أدت إلى زيادة النفوذ الشيعي في العراق بعد عام 2003، ولعلّ أبرزها كون الدولة أصبحت ضعيفة بشكل كبير، وغير قادرة على توفير الحماية والخدمات الأساسية، علاوة على تصاعد حدة الاحتجاجات في ظل زيادة الفساد، تزامناً مع سياسات رئيس الوزراء السابق «نوري المالكي»، وصعود تنظيم «داعش» بشكل كبير في البلاد.

كل تلك الأمور أدت إلى انخفاض الثقة بالحكومة والمؤسسات المدنية، في مقابل اكتساب «المدن المقدسة» للسلطة والنفوذ، مثل مدينة النجف التي توجد بها حوزات كانت تجمع مبالغ ضخمة من التبرعات من جميع أنحاء العالم، فضلاً عن تزايد إيرادات الحج إلى النجف وكربلاء.

وبالتالي قامت تلك المدن بوظائف أقرب إلى وظائف الدولة نفسها، في ظل تقديم عدد كبير من الخدمات للمواطنين العراقيين. بيد أن ذلك يحمل أخطاراً عدة، تتمثل في ارتفاع سقف التوقعات من جانب المواطنين. وكذلك فإن اتخاذ الزعامات الدينية مواقف بعينها تجاه قضايا شائكة من شأنه أن يجعل شعبيتها محل مجازفة، خصوصاً في ظل تفاقم الأحداث السياسية والأمنية في البلاد.

وتشير المؤلفة إلى أن رغبة الزعامات الشيعية في لعب دور سياسي، جعلت بعضهم يحاول تأكيد أنه لا يتبع إيران. بل وصل الأمر إلى انتقاد التدخلات الإيرانية في الشأن العراقي بشكل معلن، مثلما فعل «مقتدى الصدر».

قراءة الدور الديني

يحاول كتاب «كارولين سايج» تقديم قراءة للدور الديني للشيعة، على مدى عقد ونصف، منذ الغزو الأميركي للعراق في عام 2003. وينطلق في ذلك من تأكيد أن الزعامات الشيعية، خصوصاً السيستاني والصدر، اللذين حاولا أن يأخذا مسلكاً سياسياً قائماً على تأكيد مدنية الدولة العراقية، ورفض أي تدخلات خارجية، حتى لو كانت إيرانية في ظل نزاع بين «النجف» العراقية و«قم» الإيرانية كمرجعيات شيعية مهمة. وقد حاول الكتاب تقديم صورة يمكن اعتبارها مثالية أو غير واقعية بدرجة كبيرة، والاكتفاء بالحكم على الدور الديني للزعامات الشيعية، انطلاقاً من خطاباتهم، التي أكدت احترام العملية السياسية وآلياتها المختلفة، وهي خطابات كانت تحاول ملء الفراغ السياسي والديني، الذي حل البلاد عقب حلّ معظم المؤسسات التابعة لنظام صدام حسين، ولا أدلّ على ذلك من دخول البلاد في دوامة من العنف والطائفية والفساد، بشكل لم تستطع من خلاله الزعامات الشيعية المؤثرة لعب دور فاعل في القضاء عليها.

ومع ذلك، فإنه يُحسب للكتاب تأكيده وجود اختلافات جوهرية بين رؤية بعض الزعامات الشيعية في العراق للدولة وعلاقتها بالدين، وبين رؤية إيران للدولة وعلاقتها بالدين، حيث أظهرت الممارسة الفعلية تفضيل السيستاني والصدر للدولة المدنية.

• السيستاني حاول تقديم نفسه كحامٍ للديمقراطية العراقية الوليدة، محاولًا التوفيق بين الدين من جانب، والديمقراطية من جانب آخر، من أجل الحصول على أكبر قدر من المكاسب السياسية.

• تحليل خطابات الزعامات الدينية الشيعية في النجف، في مرحلة ما بعد «صدام حسين»، يكشف عن أن الدين جزء أساسي من التكوين السياسي العراقي، ولا ينفصل بأي حال عن الحديث عن الدولة.

تويتر