تشريع يحصّن المجتمع
لم تأتِ التعديلات الأخيرة على قانون الجرائم والعقوبات الإماراتي باعتبارها مجرد تشديد للعقوبات أو إعادة ترتيب للنصوص القانونية، بل تعكس رؤية تشريعية أعمق، تسعى إلى إعادة ضبط العلاقة بين القانون والمجتمع، في ظل تحولات اجتماعية واقتصادية متسارعة، وارتفاع معدلات الجرائم ذات الطابع المركّب والعابر للحدود عالمياً.
أبرز ما يلفت النظر في هذه التعديلات هو التركيز الواضح على حماية الفئات الأكثر هشاشة، وعلى رأسها الأطفال والقُصّر، فالقانون لم يعد يكتفي بتجريم الفعل، بل انتقل إلى مرحلة تحصين المجتمع مسبقاً عبر تشديد العقوبات، وإغلاق أي ثغرات كانت تسمح بتبرير الجريمة تحت دعاوى الرضا أو الغموض القانوني، ما يبعث برسالة اجتماعية حاسمة، مفادها أن حماية القُصّر ليست محل نقاش أو تأويل.
ومن زاوية أخرى، تعكس التعديلات تطوراً نوعياً في فلسفة العقوبة ذاتها. فإعطاء القضاء سلطة إجراء تقييمات نفسية واجتماعية للمحكوم عليهم قبل انتهاء العقوبة، وفرض تدابير لاحقة عند وجود خطر محتمل، ينقل القانون من مفهوم «العقوبة بعد الجريمة» إلى مفهوم «إدارة الخطر المجتمعي»، وهو تطوّر ينسجم مع النظم الجنائية الحديثة التي ترى أن العدالة لا تتحقق فقط داخل أسوار السجون، بل في منع تكرار الجريمة، وحماية المجتمع على المدى الطويل.
كما أن تشديد العقوبات على الجرائم الأخلاقية والجرائم المرتبطة بالاستغلال يعكس إدراكاً تشريعياً بأن بعض الجرائم لا تُهدد الأفراد فقط، بل تضرب البنية القيمية للمجتمع، ومن ثم، فإن الردع هنا لا يستهدف الجاني وحده، بل يسعى إلى ترسيخ معايير سلوكية واضحة، تحمي الاستقرار الاجتماعي.
وعلى المستوى المجتمعي، من المتوقع أن تسهم هذه التعديلات في تعزيز الثقة بالمنظومة العدلية، لاسيما لدى الأسر، والمستثمرين، والمقيمين، عبر التأكيد على أن القانون الإماراتي قادر على مواكبة الواقع، والتدخل بحزم حين تمس الجريمة أمن المجتمع أو سلامته الأخلاقية.
في المحصلة، لا يمكن قراءة تعديلات قانون العقوبات بمعزل عن السياق الأشمل للدولة، فهي تشريعات لا تعاقب فقط، بل توجّه المجتمع، وتؤكد أن القانون في الإمارات أداة حماية واستقرار قبل أن يكون أداة ردع.
لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه
مسؤولية ما ينشر في مقالات الرأي تقع على الكاتب وحده ، ولا تتحمل الصحيفة مسؤولية الآراء الواردة فيه.