حين يصبح النظرُ معرفة
ليست «تربية العين» أو Augenerziehung مجرد ترجمة لمصطلح ألماني، بل هي جوهر منهج تربوي، يرى في النظر فعلًا معرفياً يوازي القراءة والتفكير.
ظهر هذا المفهوم في أواخر القرن الـ19 مع تأسيس أقسام الفنون في الجامعات الغربية، وفي مقدمتها هارفارد، حيث وعى المؤسسون أن تاريخ الفن لا يُدرَس من الكتب وحدها، بل من تأمل اللوحة والمنحوتة والنقش، ومن تدريب العين على الفهم قبل إصدار الأحكام.
فالغاية أن ينتقل المتعلم من «الرؤية» إلى «البصيرة»، من التحديق العابر إلى إدراك الخط واللون والظلّ والملمس، وإلى فهم السياق الثقافي والتاريخي الذي خُلِقَ فيه العمل. وهكذا وُلدت في هارفارد فكرة «مختبر العين»، حيث كانت اللوحة تُفحَص كما تُفحص عيّنة علمية، ويُدرَّس الرسم لا لإنتاج رسّامين، بل لصنع عينٍ تفكّر كما يفكّر الفنان.
واليوم، في عصر الذكاء الاصطناعي وصناعة الصور الرقمية، تبدو هذه الفكرة ضرورية أكثر من أي وقت مضى، إذ نعيش في عالم تُدار فيه السياسة والإعلام والوعي الجمعي بلغات بصرية تتطلب عيناً ناقدة لا تنخدع بسهولة. ولهذا عادت جامعات كثيرة إلى تدريس «التحليل البصري»، وإلى تنظيم ورش تجعل الطالب يقف أمام العمل الفني طويلًا، قبل أن يكتب عنه كلمة واحدة.
وإذا انتقلنا إلى العالم العربي، وجدنا أنّ «تربية العين» ليست غريبة على تراثنا، رغم أن المصطلح نفسه جديد. فالحضارة العربية الإسلامية أعادت تعريف العلاقة بين العين والجمال منذ القرون الأولى: في الزخارف الهندسية التي تُربّي الذائقة على النظام والتناغم، وفي فنون الخط التي تجعل الحرف عالماً من الإيقاع، وفي العمارة التي تربط الضوء بالراحة والهدوء. ومع ذلك، لايزال تعليم الفنون في عالمنا العربي أسيراً لمنهج نظريّ يغلب عليه الوصف والتلقين، ويقلّ فيه الاحتكاك المباشر بالعمل الفني. قليلٌ من مدارسنا العربية يُعطي للطفل فرصة لصنع مادته، أو لتدريب عينه كما يُدرّب على قواعد الكتابة والنحو.
لكنا نجد في بعض الجامعات العربية مبادرات جادّة للنهوض بدراسة الفنون وتاريخها، غير أنّ هذه المبادرات لاتزال في حاجة إلى خبرة عملية تُخرج الطالب من نطاق المحاضرة المغلقة إلى فضاء المشاهدة المباشرة، حيث يواجه المادة الفنية وملمسها وخطوطها وأثر الزمن فيها. ويذكّرنا مفهوم Augenerziehung بأنّ العين لا تولد عارفة، وأن تعليم الرؤية شرط أول لفهم عالم يفيض بالصور، ويتطلّب يقظة في التمييز والتقييم.
* باحث زائر في جامعة هارفارد
لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه
مسؤولية ما ينشر في مقالات الرأي تقع على الكاتب وحده ، ولا تتحمل الصحيفة مسؤولية الآراء الواردة فيها.