أيحسب الإنسان أن يُترك سُدى؟!
غفلة الإنسان عن الله تعالى تجعله ينسى المآل، ويعيش غافلاً عما أراده الله منه أو حذره منه، مع أنه يرى العِبَر تترى، بين فاقد ومفقود، وحي مولود، وصحيح ومريض، وغني وفقير، وآمن وخائف.. إلى غير ذلك، وكل ذلك يدل على أن الإنسان الذي خلقه الله للإيمان به وعبادته، أنه لن يترك وشأنه من غير جزاء المثوبة أو العقاب، لذلك خاطبه الله تعالى بهذا الخطاب الاستغرابي: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} أي هملاً من غير مجازاة على الخير أو الشر، ومعلوم أن هذا الحسبان لا يكون إلا ممن لا يعقل كالدواب، أما الإنسان المكرم بالعقل فإن عليه أن ينظر إلى المآل وكأنه يراه، ولغفلته يذكره الله تعالى بالدلائل الدالة على دحض هذا الحسبان الكاذب، فيدعوه للنظر إلى نشأته من أنه كان نطفة من منيٍّ يمنى، ثم كان علقة، ثم مضغة، ثم عظاماً ثم كَسى العظام لحماً، فالذي كوَّنه بهذه الأطوار لن يتركه سدى، بل سيوقفه بين يديه، ويجازيه على ما قدم من خير أو شر، ولا يظلم ربك أحداً.
إن هذا الخطاب الرباني يستدعي من الإنسان المغرور في هذه الحياة أن يحاسب نفسه قبل أن يُحاسب، ويعلم كيف سيكون مصيره إن وقف بين يدي الملك العدل الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، عليه أن يحاسب نفسه ليحملها على الطاعة وامتثال الأمر، واجتناب النهي، والتنافس في الخيرات، يحاسب نفسه حتى لا تأمره بالسوء فيستجيب لها، فتهلك ويهلك معها، يحاسب نفسه من ظلم العباد في أموالهم أو أعراضهم أو أجسادهم؛ لأن هذا الظلم المتعلق بالعباد لا يغفره الله تعالى؛ لأنه من التَّبعات كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عرفة: «أيها الناس، إن الله تطوَّل عليكم في هذا اليوم، فيغفر لكم إلا التبعات فيما بينكم» وكم من الناس الذي يتساهلون في هذه التبعات نسياناً منهم لتبعاتها يوم القيامة من المساءلة والمجازاة، وأقل أحوالها أن المظلوم يستوفي ظُلامته من حسنات الظالم إن كانت له حسنات، أو يحمِّله أوزاره ليوبق في النار.
إن الغفلة عن الدار الآخرة ومقام المجازاة لا تكون إلا من القلب الخالي عن ذكر الله تعالى، المستهتر بوعده ووعيده، ومن كان هكذا فهو ذو قلب ميت فيحتاج إلى أن يحييه بذكر الله تعالى والنظر في المصير القادم عليه، وصدق الله تعالى إذ يقول: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا}.
*كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي
لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه
مسؤولية ما ينشر في مقالات الرأي تقع على الكاتب وحده ، ولا تتحمل الصحيفة مسؤولية الآراء الواردة فيها.