شرطة الأزياء عبر العصور

أقامت مكتبة هوغتون في جامعة هارفارد معرضاً بعنوان «شرطة الأزياء: ضبط مظهر المرأة عبر العصور»، عُرضت فيه شواهد تاريخية تُظهر كيف كان اللباس عبر الزمن أكثر من مجرد قطعة قماش، بل وسيلة تعبر عن الانتماء والالتزام بالقيم الاجتماعية. فمنذ القرون القديمة، كانت قوانين الممالك الأوروبية تُحدّد ما يجوز لسيدات الطبقة الراقية ارتداؤه في المناسبات الرسمية، باعتبار المظهر مرآة للهيبة والانضباط.

وفي القرن الـ19 اشتعلت «معركة الكورسيه»، حين وقف الأطباء بين مؤيد يرى فيه دعامة لظهر المرأة، ومعارض يعتبره آلة تعذيب تخنق الأنفاس وتلوي الأضلاع. حتى الأدب الموجّه للأطفال لم يُغفل هذه الفكرة، ففي حكاية «فاني الصغيرة»، وهي قصة عن فتاة مغرورة بجمالها وثيابها الباذخة، تفقد كل ما تملكه بسبب تعاليها وعدم تقديرها للبساطة.

ومع أن هذه الوقائع تبدو من الماضي، فإن أثرها لايزال حاضراً بصورة مختلفة. ففي عدد من دول الشرق الأوسط، تُطبّق أنظمة الحجاب بوصفه جزءاً من الهوية الدينية والاجتماعية، وأداة لحفظ الكرامة والخصوصية، بينما تفرض دول غربية مثل فرنسا والنمسا قيوداً على تغطية الوجه في الأماكن العامة، تحت مبررات أمنية. أما في أفغانستان، فقد اتخذت بعض الجماعات المتشدّدة من اللباس معياراً يُلزم الرجال والنساء معاً.

وما بين إلزام بالحجاب هنا، ومنع للنقاب هناك، تكشف الأرقام المنشورة في مجلة «هارفارد غازيت» في 23-9-2025، أن نحو نصف دول العالم لديها قوانين أو سياسات تنظم ما ترتديه النساء. تغيّرت الأدوات فقط: بعد أن كانت الأوامر ملكية تُكتب على الورق، أصبحت اليوم إشعارات على الهاتف، أو تعليقات ساخرة على «إنستغرام»، أو خوارزمية تُزيل الصورة لأنها «لا تلتزم بضوابط المجتمع».

وفي العالم العربي، حيث تجتمع أصالة العباءة ورصانة الزّي التقليدي مع تأثيرات الموضة العالمية، يبرز سؤال مهم: كيف نوفّق بين الحشمة والجمال؟ وما هي الجهة المخوّلة برسم حدود اللباس؟ العائلة؟ المجتمع؟ أم التشريعات الرسمية؟ إن الحفاظ على الذوق العام لا يتعارض مع الأناقة ما دامت في إطار الاحترام والوقار.

وفي الختام، يتجلى لنا أن مسألة الثياب ليست مجرد تفاصيل شكلية، بل جزء من هوية الفرد والمجتمع. والغاية ليست التحكم أو التضييق، بل تحقيق التوازن بين حرية الفرد ومسؤوليته، وبين خصوصية الذوق ومتطلبات العرف العام. وما بين الإفراط في المنع والمبالغة في الانفلات، يبقى الاعتدال والوعي هما الخيار الأجدر بالحفاظ على الذوق الفردي والهوية المجتمعية.

*باحث زائر في جامعة هارفارد

لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه

مسؤولية ما ينشر في مقالات الرأي تقع على الكاتب وحده ، ولا تتحمل الصحيفة مسؤولية الآراء الواردة فيها.

 

الأكثر مشاركة