رسالة سلطان من كويمبرا
في التاريخ الثقافي الممتد بين العرب والبرتغاليين، تتقاطع الحكايات في شبكة من التأثيرات المتبادلة التي بدأت منذ القرن الثامن الميلادي، عندما أصبحت لشبونة وقرطبة وإشبيلية مراكز للتبادل العلمي بين العلماء العرب والبرتغاليين. فقد أسهم العرب بدور محوري في النهضة الأوروبية، عبر حركة الترجمة الكبرى التي نقلت علوم الطب والفلك والفلسفة والرياضيات إلى اللاتينية، ومنها إلى اللغات الإيبيرية، لتصل إلى البرتغال عبر جسور الأندلس. وهكذا، تبدو العلاقة بين الثقافتين امتداداً طبيعياً لتاريخ طويل من التفاعل الإنساني.
ومن الوعي بأهمية هذا الإرث العميق، تنطلق مبادرات صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى، حاكم إمارة الشارقة في دولة الإمارات العربية المتحدة، من افتتاح مركز الدراسات العربية في جامعة كويمبرا، وإطلاق مكتبة جوانينا الرقمية، إلى إهداء المخطوطة الأصلية لدُوَارتي باربوزا إلى مكتبة الجامعة، لتشكل نهضةً جديدة في مسار العلاقة بين العالمين العربي والبرتغالي.
إن مركز الدراسات العربية في جامعة كويمبرا، يمثل فضاءً معرفياً عالمياً جديداً، يعمل على توثيق التراث العربي والإسلامي في البرتغال، ودراسة أثره العميق في اللغة والأدب والتاريخ الأوروبي، كما يفتح آفاق البحث أمام الأكاديميين والطلبة البرتغاليين والعرب لاستكشاف المشترك الإنساني بين الحضارتين. ويمهد لمرحلة من التعاون المستدام تكون فيها الثقافة العربية حاضرةً بقوة في الذاكرة الأكاديمية الأوروبية، كما كانت في نشأتها الأولى.
لا تتوقف أهداف صاحب السمو من هذه المبادرات عند الحدود الأكاديمية ، بل تشكل امتداداً لحكمة سموه في توظيف الثقافة بوصفها جسراً نحو عالم جديد، عبر مواجهة الانغلاق والتعصب، واستعادة الدور الأخلاقي للمعرفة؛ إذ يأتي المركز ضمن رؤية أوسع، تعدّ الإصلاح الثقافي المدخل الأعمق لأي إصلاح حضاري شامل، فلا يمكن للعالم أن ينهض ما لم تستعد الثقافة دورها قوةً موجِّهةً للوعي الإنساني.
وحتى تتحقق هذه الرؤية، لا بد من أن تصل رسالة سموه إلى كل مثقف ومنشغل بهموم المعرفة في أي مكان من هذا العالم، وهي أن الجغرافيا تصنع هوية الثقافة، لكنها تحتجز الكثير من قيمتها ما لم تصبح عالمية الأثر. وإن مسؤولية الكلمة اليوم أن تعيد وصل ما انقطع بين ضفاف المعرفة الإنسانية. إنها دعوة إلى أن تتحول الثقافة من سردٍ للهوية إلى فعل يوسّع حدودها، ومن ترف فكري إلى التزام أخلاقي، يضع الإنسان في مركز كل مشروع حضاري. وهذا هو تماماً جوهر مشروع الشارقة الثقافي، مشروع إماراتي وعربي أصيل في جذوره، عالمي في إنسانيته، ينهل من تراث الأمة ليخاطب وجدان العالم.
لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه
مسؤولية ما ينشر في مقالات الرأي تقع على الكاتب وحده ، ولا تتحمل الصحيفة مسؤولية الآراء الواردة فيها.