الوجوه بين المرايا والأقنعة
كم من مرّة أسَرَتنا الوجوهُ المشرقة والابتسامات العذبة، فتوهمنا أنّ وراءها قلوباً صافية ونوايا بريئة، ثم جاءت الأيام لتفضح لنا هذا الوهم. صديق لي التقى شابة فاتنة، فخُيّل إليه أنّه وجد سعادته المنشودة، وتحدّثا في أمر الزواج، لكن سرعان ما تلاشى البريق حين تبيّن له أن حديثها لا يدور إلا حول الخواتم النادرة واللآلئ الباهظة. صُدم بجشعٍ لم يتوقّعه، فعدل عن مشروعه، وها هو اليوم يحمد الله على قراره بعدما أدرك أنّ صفاء النيّة لا يُقاسُ بجمال المُحَيّا.
ذكّرني موقفه بحديث القدماء عن علم الفراسة، ذاك العلم الذي شغل أبا حيّان التوحيدي في بغداد في القرن العاشر، ففي كتابيه «المقابسات» و«الإمتاع والمؤانسة» نقرأ حواراته الممتعة مع أصحابه، حيث كان يستعرض أخبار الفلاسفة والمتكلّمين، ويتأمّل في قدرة الوجوه على كشف ما في النفوس. يروي أحياناً حكايات طريفة عن رجل حُكم عليه بفساد السريرة لمجرّد ملامحه، فيضحك السامعون، وهكذا ظلّ التوحيدي متردّداً بين الثقة بحدس الفراسة والاعتراف بأنّ الباطن أعمق من أن يُقرأ في قسمات الجبين.
بعد قرون، في ريف بوردو الفرنسي، جلس ميشيل دو مونتيني ليكتب «المقالات»، متأمّلاً هو الآخر في سرّ الوجوه، لكنه لم يرَ في الفراسة علماً يعتمد عليه؛ فالوجه عنده قد يضلّل. ألم يكن سقراط، أقبح القوم وجهاً، أصفاهم نفساً وأحكمهم عقلاً؟ عند مونتيني، الفضيلة ليست في المظهر، بل في البساطة والاعتدال، وفي ما سمّاه «حركات النفس الطبيعية». الحكمة الحقة عنده هي تلك التي تنبثق من الإنسان العادي، من صدق القول ودفء الروح، لا من بهرجة الطلعة ولا من زخرف الكلمات.
كأنّ التوحيدي ومونتيني يتجاوران، أحدهما بين أسواق بغداد وبلاط خلفائها، والآخر بين كروم بوردو وحدائق قصره الريفي، لكنّهما يلتقيان عند السؤال الأبدي: هل الوجه مرآة القلب؟ وهل المظهر يخدع دوماً، فيما لا يُدرك الباطن إلا بالتجربة الطويلة؟ ألم يقل ابن حزم في «طوق الحمامة» إنّ الحب لا يُختبر إلا بطول المعاشرة؟
واليوم، في زمنٍ نرى وجوه السياسيين في نشرات الأخبار، ونلاحق صور المشاهير على وسائل التواصل، السؤال يبقى ماثلاً: كيف نرى الجوهر خلف البريق؟ لعلّ التوحيدي يبتسم من بعيد ساخراً من مفارقات الفراسة، فيما يهمس مونتيني بأنّ سرّ الروح أعمق من أن يُقرأ في قسمات عابرة، هكذا نتعلّم أن الوجه الجميل قد يبهرك لحظة، لكنّ القلب وحده هو المرآة التي لا تكذب.
* باحث زائر في جامعة هارفارد
لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه