عنترة وبيوولف وأوديسيوس

يأتون من عوالم شتى وقرون متباعدة وتقاليد سردية لا يربط بينها رابط، ومع ذلك لو اجتمع عنترة بن شداد، وبيوولف، وأوديسيوس في مجلس واحد، لكان الحوار أسطورة بحد ذاته.

تخيلوا معي هذا المشهد: فارس عربي جاهلي، سيّاف وشاعر في آن، يمتلك لساناً حاداً كسيفه، ومحارب أنجلوسكسوني صارم يطارد الوحوش ويواجه القدر بابتسامة ساخرة، وبطل إغريقي ماكر يستطيع أن يبيع لعنترة أهرام الجيزة، ويقنع بيوولف بشراء برج إيفل قبل أن تُقدّم قهوة الصباح.

وُلد عنترة في صحراء العرب، أبوه من سادة بني عبس، وأمه جارية حبشية. لم تسقه الحياة رحيق الينابيع، بل جرّعته كؤوس الحنظل. ومع ذلك، انتزع مكانته بحدّ السيف في ساحات الوغى وهو يتغزّل بحبيبة الفؤاد: وَلَقَد ذَكَرتُكِ والرِّماحُ نَواهِلٌ - مِنّي وبِيضُ الهِندِ تَقطُرُ مِن دَمي / فَوَدَدتُ تَقبيلَ السُيوفِ لأَنَّها - لَمَعَت كَبارِقِ ثَغرِكِ المُتَبَسِّمِ.

أمّا بيوولف فلم يكن ليلتفت إلى أهازيج الغزل، فقد عاش في عالم تتربّص فيه الوحوش الأسطورية خلف الظلال. مزّق ذراع الغول «جريندل» وحين زأر التنين في شيخوخته، تقدّم إليه بقلب لا يعرف التراجع، مدركاً أن المواجهة هي آخر فصول حياته، فسقط جسداً، لكنه ارتفع اسماً في سجل الخلود.

وأما أوديسيوس فكان بطل الحيلة والدهاء، يقدّم العقل على العضلات. صحيح أنه قاتل لكن سلاحه الأقوى كان «الميتيس»، ذلك المزيج من الذكاء والجرأة واللسان الساحر. خدع السيكلوب، وتغلب على الساحرات، وتفادى صفير السيرينات. بالنسبة له البطولة كانت مباراة شطرنج مع الكون، والانتصار يعني العودة إلى إيثاكا، ولو مثقلاً بالجراح والخسائر، ليستعيد عرشه وزوجته بينيلوبي وأسرته.

وعلى الرغم من تباعد الأزمنة والألسنة، فإن بين الثلاثة قاسماً مشتركاً. كلّهم قاتلوا من أجل ما هو أكبر من ذواتهم: الدفاع عن القبيلة، وعن الوطن، وعن السمعة. وكلّهم سعوا وراء إرث يبقى بعدهم، يجمع بين القوّة الجسدية والبأس الأخلاقي.

الخلاصة أن كل أمة تنسج صورة بطلها بخيوط لغتها وإيقاع وجدانها. قد يصدح الصوت من فم شاعر عربي كهدير الصحراء، أو يجيء صارماً موزون الخطى من شاعر أنجلوسكسوني، أو ينساب ماكراً نافذ البصيرة في ملحمة هوميروس، لكن الرسالة تظل واحدة: إن البطولة لا تُقاس بحدة السيوف الضاربة في المعركة، بل بقدرة الحكاية على النجاة من مقصلة النسيان، لتظل أصداؤها تتردد بعد أن يغيب أصحابها عن مسرح الحياة.

*باحث زائر في جامعة هارفارد

لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه

الأكثر مشاركة