الأدب والطعام النيّئ والمطبوخ

بين المطبخ والمكتبة تمتد علاقة خفية شهية وعميقة الجذور.

كلاهما يحتوي على رفوف، وكما يُطهى الطعام على نار المواقد والأفران، يُصاغ الأدب على نار اللغة وسخونة التجربة. وكما يتدرج الطبق من النيّئ إلى المطبوخ، يتدرج النص من الخام العفوي إلى المكتمل المُتقن، من الفكرة الجائعة إلى الجملة المشبِعة.

فالأدب غذاء للروح، كما أن الطعام قوت للجسد، ولكليهما طقوس إعداد، وتفنّنٍ في الخلط، وكما يُغلي الطاهي مكوناته على نار الصبر ليُقدّم طبقاً يُشبع، يمزج الكاتب المعاني والعواطف والصور ليُخرج نصاً «نتذوق طعمه» و«نلوك معانيه»، «نستسيغه» وربما «نهضمه».

في فرنسا، كانت قضمة من المادلين المغموسة في الشاي كافية لتفتح لمارسيل بروست أبواب الطفولة، وتنقله من فنجان إلى سرد عظيم في البحث عن الزمن المفقود. لم تكن الحلوى هنا طعاماً، بل مفتاح للذاكرة، ورمز لعذوبة الحنين الذي يُفصَح عنه عبر الحواس.

وأما في مقامات الحريري والهمداني، فإن الطعام يتجاوز كونه مجرد مشهد عرضي أو زينة للحديث، ليتحول إلى أداة بلاغية ووسيلة سردية تُستثمر في رسم الشخصيات، وتعميق المفارقة، إذ نرى أبا زيد السروجي، البطل المخادع، يقتحم المجالس متنكراً في هيئة الزاهد أو العالم أو الشاعر، ليخطب أو يُجادل، ويستجلب بذلك الطعام بلسانه لا بيده، وببلاغته لا بجوعه.

وفي المغرب يصعد «الكسكس» من مجرد طبق إلى ذاكرة جمعية. هو طعام الجدات، ومذاق الأعياد، وعلامة الهوية في وجه الاغتراب، كما تصوره روايات الطاهر بن جلون وغيرها.

أما في إسبانيا فنجد أن أكلة الباييا (بالإسبانية Paella) اسم مشتق من كلمة «بقايا» العربية تروي قصة الريف والفقراء، وموائد المطهو على نار الحياة. في أدب لوركا، يصبح الطعام مسرحاً للعلاقة بين ألم الجوع ولذة الشبع.

في الفرنسية تستخدم لفظ goût ليجمع بين الذوقين: الذوق الحسي والذوق الجمالي. وفي الإسبانية توصف الرواية المشوقة بأنها sabrosa، أي شهية، بينما توصف النصوص الضعيفة بأنها insípida، أي بلا طعم. أما في الإنجليزية، فكثيراً ما يُقال عن الجملة المحكمة، إنها «well-seasoned» أو عن الأسلوب الحاد إنه «spicy»، وجميع هذه التعابير تدل على مدى تماهي التجربة الأدبية مع تجربة التذوق.

هكذا يغدو الأدب طبقاً يُقدّم، تتنوع وصفاته بين الثقافات، لكن غايته واحدة: أن يشبع حاجة الإنسان إلى المعنى، كما يُشبع الطعام حاجته إلى البقاء.

*باحث زائر في جامعة هارفارد

لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه

 

الأكثر مشاركة