في مدح الناقص والزائل

في عصرٍ يزداد فيه هوس البشرية بالكمال المصقول، والسطوح اللامعة، والسيمترية البصرية، وفي زمنٍ تُلهِب فيه الشاشات رغبتنا بالمزيد: من الشباب، من السيطرة، من اللمعان، تنهض فلسفة يابانية هادئة، عميقة، تدعى وابي-سابي، لتقدّم رؤية معاكسة، بل متمرّدة في رقتها، تقول لنا: توقّفوا لحظة.. أنصتوا إلى ما هو غير مكتمل، تذوّقوا ما هو زائل، أحبّوا ما هو ناقص.

إنها فلسفة متجذّرة في روح الجمال اليابانية القديمة، يصعب اختزالها بكلماتٍ قاطعة، لأنها ليست نظرية، بل إحساس، نظرة إلى العالم، وموقف من الحياة. لا تصرخ في وجهك كما تفعل إعلانات التجميل، بل تهمس إليك من حافة فنجانٍ مشروخ، أو من ظلّ ورقة ذابلة تهوي بصمت على الأرض.

في قلب هذه الرؤية، يكمن تمجيد البساطة، وتقدير الأشياء التي تحمل بصمات الزمن، لا التي تقاومه. ليست حنيناً إلى ماضٍ مثالي، بل احتفاء بكرامة الشيخوخة، وبجمالٍ يظهر حين تخفت الألوان، وتتهادى الأشكال نحو السكون.

تأمل فنّ الكِنتسُغي، حيث يُعاد ترميم الأواني المكسورة بذهبٍ سائل. هنا لا تُخفى الكسور، بل تُحوَّل إلى شواهد على تاريخ الآنية، علامات على بقائها. وهكذا، فإن جراحنا، هي الأخرى، يمكن أن تصبح ذهباً إذا ما نظرنا إليها بعين الصدق والرأفة.

أو انظر إلى مقعدٍ خشبي شاحب، قضمت الشمس أطرافه، وغسلته الأمطار مراراً. في نظر وابي-سابي، ليس هذا المقعد في حاجة إلى إعادة طلاء، بل هو مكتملٌ كما هو، لأنه يحمل آثار الحياة لا أوهامها.

تدعونا هذه الفلسفة إلى العودة لما نغفل عنه في معترك الحياة: طمأنينة التفاصيل الصغيرة، دفء الأشياء المألوفة، جمال ما هو بسيط وحقيقي. كوب قديم يرافق صباحاتنا، رسالة بخط اليد لا تعرف التنقيح، تجعيدة على وجه الجدة، كلّها تحوي شعراً خفياً لا تلتقطه أعين الساعين للكمال.

وفي عالمٍ يزداد افتتاناً بالجمال المصطنع والكمال الخوارزمي، تمثّل وابي-سابي دعوة للتمرد الرقيق، لا عودة إلى الماضي، بل مضيٌّ نحو الأصالة. تسألنا بهدوء: من قال إن الجمال يجب أن يكون كاملاً؟ أما يكفي أن يكون صادقاً؟

وليس غريباً أن نجد صداها في تراثنا: في دمعة الشاعر عند الأطلال، وفي صمت الصوفي أمام زوال كل شيء.

تدعوك وابي-سابي أن تحتضن النقص لا كخذلان، بل كبصيرة تكشف الجمال المستتر، وأن ترى في الزوال لا نهاية، بل حكمة خفيّة تهمس: وحده الصدق يبقى إلى الأبد.

* باحث زائر في جامعة هارفارد

لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه

الأكثر مشاركة