أسطورة «بيجماليون»

في الميثولوجيا اليونانية، تبرز أسطورة بيجماليون، النحات القبرصي الذي كره نساء عصره، فصنع تمثال امرأة من العاج، كاملة الجمال، مطيعة وصامتة. المفارقة أن بيجماليون وقع في حب تمثاله، فدعا الآلهة، فاستجابت له أفروديت، ونفخت فيه الروح. هكذا وُلدت جالاتيا، امرأة من لحم ودم.

هذه القصة، التي تتأرجح بين وهم الكمال وصدام الواقع، ألهمت الأدباء في الغرب والشرق.

في مسرحيته الشهيرة Pygmalion (1913)، أعاد برنارد شو صياغة الأسطورة في قالب اجتماعي بريطاني. البروفيسور هيغينز لا يصنع تمثالاً، بل «ينحت» بائعة زهور تُدعى إليزا دوليتل، ليرفعها طبقياً بتعليم اللغة والمظهر. لكن إليزا تتمرّد، وترفض أن تبقى صنيعة، وتطالب بالكرامة. لا تعود إلى هيغينز في النهاية، بل تنطلق مستقلة، وواعية بذاتها.

يقول شو: «الفرق بين سيدة وبائعة زهور لا يكمن في سلوكها، بل في الطريقة التي يُعاملها بها الآخرون». ويعيد فيلم My Fair Lady (1964) الفكرة بصوت إليزا: «الفرق بين سيدة وبائعة زهور هو كيف تُعامل، لا كيف تتصرف».

أما توفيق الحكيم، فقدّم معالجة عربية في مسرحيته بيجماليون (1942) هنا، لا يرغب البطل بامرأة حقيقية، بل بتمثال يخضع له، ويجسّد حلم الكمال عنده. وعندما تنبض الحياة في التمثال، يقول له: «أتريدني جميلة فقط؟ أم أن أكون إنساناً؟»، ويراها تأكل وتشرب وتتجشأ كبقية البشر، يتراجع، ويعود إلى الصورة الصامتة. الحب عند الحكيم يتحوّل إلى هرب من تعقيد الحياة إلى مثالية زائفة.

وتجد صدى بيجماليون في الأغنية العربية، كما في أغنية عبدالحليم حافظ «مشغول»:

«أنا عندي ميعاد مع صورة/ للصبح أسهر قدامها..» هنا، يختار العاشق صورة لا تتكلم ولا تعارض، امرأة من ورق تريحه من مواجهة الحقيقة. يقول:

«وعينيها الحلوة تكلمني/ ولا مرة تفكر تخاصمني».

وسواء في الأسطورة أو الأدب أو الأغنية، تبقى إشكالية بيجماليون حيّة لا تموت: هل نحب المرأة كما هي، بلحمها ودمها، بحريتها وعيوبها وتناقضاتها؟ أم نحب صورة نسجناها بأنامل الخيال، نقيّة خالية من العيب، ومفرّغة من الروح؟ هل نبحث عن شريكة تقف معنا على قدم المساواة، تفكّر وتجادل وتحلم، أم نفضّل تمثالاً ناطقاً، يردّد صدى صوتنا، ولا يخرج عن النص؟

إنها معضلة الحب والسلطة، الجمال والحرية، الواقع والوهم. ومأساة كل من أراد الجمال الحي دون أن يتحمّل تبعات الصوت الحر، والإرادة المستقلة، والحق في الاختلاف.

* باحث زائر في جامعة هارفارد

لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه

الأكثر مشاركة