هجرة القيم
قد يتبادر إلى أذهاننا للوهلة الأولى ما المقصود بهجرة القيم؟ وهل هجرَتنا القيم أم نحن من هجر القيم؟ فالقيم عبارة عن مجموعة من السلوكيات والمبادئ والأخلاقيات التي تربّى عليها الفرد منذ الصغر والتي يمارسها باستمرار في حياته اليومية.
وفي زمن الانفتاح غير المسبوق على العالم لم تعد القيم التي نشأنا عليها بمنأى عن التغيير، وما نراه اليوم من تحولات في سلوكيات الأفراد، وطريقة تفاعلهم مع محيطهم ليس مجرد اختلاف طبيعي بين الأجيال، بل هو ما يمكن أن نسميه بهجرة القيم. لقد كانت القيم الأصيلة كالصدق والأمانة والرحمة والاحترام والحياء حجر الزاوية في بناء المجتمعات وتماسكها، وجميعنا قد يلاحظ تراجعاً ملحوظاً في تمسك الناس بهذه المبادئ، ليس لفساد في قيمهم، وإنما نتيجة لموجات وتحولات متلاحقة من التغيرات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية التي غيرت وجه المجتمعات والتي تقبلناها بمحض إرادتنا.
لقد هاجرت بعض القيم النبيلة بيوتنا ومدارسنا ومجتمعاتنا لتحل محلها قيم أخرى لا تمتّ لمجتمعاتنا بصلة، قيم فردية مادية وسطحية في كثير من الأحيان، فكيف نفسر تراجع قيمة الاحترام لمصلحة ثقافة الصوت الأعلى، وكيف انزوى مفهوم الإيثار ليصعد نجم المصلحة الشخصية. سمعنا عن هجرة الأوطان ولكن لم نسمع عن هجرة القيم عن الجسد، فبات الجسد وحيداً دون قيم ومبادئ، وصار الواحد منا لا يفهم ما يجري حوله، وماذا جرى للناس وصرنا نتساءل لماذا هجرنا القيم التي تربينا عليها؟ أم أن القيم هجرتنا لأنها لم تجد البيئة الطبيعية التي اعتادتها، فأصبحنا نرى قطع الأرحام أمراً عادياً، وأصبح زميل العمل ليس زميلاً ولا الصديق صديقاً ولا الجار جاراً. لا يمكننا أن نغضّ الطرف عن خطورة هذه الظاهرة، فحين تهاجر القيم يتفكك النسيج الاجتماعي، وتضعف الروابط الإنسانية ويضيع الشباب بين الحيرة والضياع، يبحث عن معنى في زمن غابت فيه البوصلة الأخلاقية.
لكن الأمل لم يمت، فمازالت هناك أسر تربي، ومعلمون يُلهمون وأصوات تنادي بالعودة إلى الجذور. نحن لا نطالب بالرجوع إلى الوراء، بل بنداء وعي بأن نحمي قيمنا ونحن نسير إلى الأمام، وأن نوازن بين الأصالة والانفتاح، وأن نربّي أبناءنا على التمييز بين الغثّ والسمين في هذا العالم. إن مستقبل مجتمعاتنا لا يُبنى بالتكنولوجيا وحدها، بل بالقيم التي تمنح الإنسان إنسانيته، وتمنح المجتمع قوّته، وألا نسمح لهجرة القيم بأن تتحول إلى نفي دائم، بل إلى وقفة مراجعة تعيد لنا ما ضاع، وتزرع في نفوسنا بذور الخير من جديد.
*أكاديمي وباحث
لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه