من سرق أطفالنا؟
في زمن ليس ببعيد، كانت بيوت الأحياء بلا أسوار، والجيران كعائلة واحدة، وفي الحي نرى أبواباً منفتحة على مصراعيها كقلوب أهلها، داعية الأطفال للخروج إلى الأزقة، لملئها بضحكاتهم ولعبهم، منهم من يلعب بـ«التيلة»، أو الكرة، ومنهم من يتسابق، أو يلاحق الآخر أو يختبئ في «لعبة الدسيس»، ومن كانت بقربه شجرة ففي الأغلب تشاهده يتأرجح في «المريحانة»، ضحكاتهم كانت موسيقى العصر، تتردد في الهواء الطلق، بينما يجلس الكبار عند الزوايا، تمتلئ أكفهم بدلال القهوة، وتفيض مجالسهم بالسوالف والحكمة.
اليوم تبدّل المشهد جذريّاً، صارت الشوارع ممرّاً للسيارات المسرعة، فارتفعت أسوار الأسمنت، لتحجب الجار عن جاره، وانكمش الأفق في عيون الآباء، نظراً إلى خوفهم من الحوادث التي تهدد حياة أطفالهم، فسارعوا إلى حبس الصغار خلف الجدران، واعتقدوا أنّ الداخل أكثر أمناً، غير أنّ الداخل نفسه تغيّر، فقد استُعيض عن الساحات الرحبة بشاشة صغيرة لا تتجاوز بضع بوصات.
في الداخل حلّ المتصفح محل الملعب، والأجهزة اللوحية والهواتف أقفلت على الطفل في عالم مصغّر: إصبع ينقر، جسد يطوي ساعات بلا حركة، وطفل يتحدّث مع أشخاص من خلف الشاشة أكثر مما يتحدّث مع الأشخاص على أرض الواقع، هكذا انكمش اللعب من خيال جماعي مفتوح إلى ألعاب فردية صامتة.
الكبار أيضاً انسحبوا من المشهد، فلم تعد دلال القهوة تدور بينهم في الشارع، بل انغلق كل بيت على ذاته، وباتوا منطوين على أنفسهم بعيداً عن كاميرات المراقبة، حفاظاً على خصوصيتهم، والمفارقة هنا أن تلك الكاميرات، المصممة لمنح الأمان والطمأنينة، زادت القلق ومنعت الزيارات العفويّة.
طفولة أبنائنا سُرقت بمنظومة متشابكة من خوف وأسمنت ومختلف التقنيات الحديثة. استعادة وقت الشارع تبدأ بتهدئة المرور، وخفض الأسوار- وهنا لا أعني أسوار الأسمنت-، وتحسين الحدائق وزيادة الساحات الآمنة، وتحديد ساعات للشاشة والاستعاضة عنها بهوايات وفعاليات خارجية، حينئذ فقط ستستعيد الذكرى صور الأطفال الذين يركضون في الهواء الطلق لا خلف الجدران، كما تربينا نحن وكما عاشت الأجيال من قبلنا.
*عضو سابق في المجلس الوطني الاتحادي
لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه