ثقافة معارض الكتب

سيظل الكتاب، إن شاء الله تعالى، هوية طلاب العلم خاصة، والمثقفين عامة؛ لأن الكتاب هو الجليس المؤنس، وهو المدرس المفيد، وهو الصاحب الأمين، سيظل مقصوداً لدى كل من يعرف قيمة العلم ويهوى المعرفة، ولا أدل على ذلك من كبير الإقبال على معارضه التي تستقطب دور النشر لعرض ما لديها من جديد أو تليد، فترى الناس ذكوراً وإناثاً بمختلف أعمارهم تهوي أفئدتهم لزيارة هذه المعارض، وكأنها حديث الساعة.

نعم، هذا ما رأيتُه في معرض القاهرة الدولي للكتاب في دورته 56، فللمرة الثانية أزوره وكأن الناس في مظاهرة عارمة، لو لم أعرف أن هذا المكان هو مركز المعارض لظننت ظن السَّوْء بهذا الجمع، ولقد ازداد إعجابي بكثرة العارضين، وتعدد قاعات المعرض الواسعة الأرجاء التي انعكست سعتها على مساحات مكاتب النشر، وكثرة معروضها من كل جديد مفيد، وما من أحد منها إلا وهو يعج بالزائرين شراء واطلاعاً.

إن مزاحمة الكتِاب بالكُتب الرقمية والنشر المعرفي بالوسائل الحديثة من السوشيال ميديا، والذكاء الاصطناعي، والصفحات العالمية كـ«غوغل» و«شات جي بي ت» «ChatGpt» وغيرها التي أصبحت سهلة المنال من غير ثمن يذكر، فضلاً عن الكتب الرقمية في الموسوعات الإلكترونية، كل هذه ليس بمقدورها أن تلغي الكتاب الورقي الذي هو أصل الثقافة المعرفية، فإن هذه الوسائل لا يعتمدها إلا من لا يُعنى بالتحقيق العلمي، ومن لا يعنى بثقة المصدر، أما من له العناية فإنه يعرف أن هذه الوسائل وإن قربت المعلومة شيئاً ما فإنها تظل غير ذات مصداقية، لِما يكون فيها من التحريف الذي قد يفقد المعنى أو يغيره، فكيف تكون عمدةً أو بديلاً عن الكتاب الذي يُعنى قبل نشره بالتصحيح والمراجعة، سواء من المؤلف أو المحقق أو الناشر.

ومع ثقتنا بأن الكتاب سيبقى رائد المعرفة؛ فإنه يحتاج مزيداً من الدعم من الجهات الرسمية ودور المعرفة ومؤسسات التعلم، حتى يصمد الناشرون أمام المزاحمة الشرسة من هذه المبتكرات الحديثة، وحتى تنشأ الأجيال على العناية بالمراجع الأصيلة، وتصحيح المعلومة، وحتى يبقى الكتاب حاضراً إذا ما «هُكِّرت» البرامج أو لعب المبرمجون بالمعلومات، فغيروا وبدلوا كما يحدث كثيراً في مراجعنا الإسلامية، وتراثنا المعرفي، فإن قيمة المعرفة إنما تكون بصدقها، وهذا الاهتمام والدعم المنشود هو من مصلحة المؤسسات والدول، فضلاً عن أرباب الثقافة ومؤسسات التعليم. وصدق المتنبي يوم قال:

أعزُّ مكانٍ في الدُّنى سرجُ سابحٍ... وخير جليسٍ في الزمان كتابُ.

*كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي

لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه

الأكثر مشاركة