«تسجيلات الشعب»
لكي يعيش أي عمل فني في أذهان الناس، وينتشر وينجح، يحتاج إلى البذرة الصحيحة التي تكون نواة العمل الفني الأساسية، وهي الصدق، هذه البذرة إن وجدت فلا مانع من أن نسقيها بالاستثمارات الضخمة، وفي كثير من الأحيان لا تحتاج هذه الأعمال إلى إغداق كبير لكي ترى النور، وتنتشر وتخلد في تاريخ الفن، فالأساس الذي أطلقت منه كفيل بإيصالها إلى مسامع الجمهور وأفئدتهم.
مثال على ذلك الأعمال التي كان ينتجها استوديو تسجيلات الشعب، أكبر مصنع غنائي إماراتي رغم صغر حجمه، أنتج مئات الأعمال الإماراتية، التي تعتبر علامات في الفن الإماراتي، وتخرج فيه أسماء مهمة، كالفنان القدير ميحد حمد والفنانة الراحلة رجاء بلمليح، وأرفد الساحة بدماء جديدة في ذلك الوقت، مثل الفنان خالد بن محمد وسعيد الدوبي وكثير من الأسماء التي لا يسعني أن أذكرها.
كان استوديو تسجيلات الشعب بسيطاً بإمكاناته، وكانت طبيعة الأعمال التي تنتج لا تحتاج إلى مبالغ طائلة، لكنها كانت أعمال نابعة بصدق من قلوب صانعيها، وقريبة من الناس، وبسيطة في التنفيذ، فخلدت في تاريخنا الفني، ومازالت محببة لدى جيل الشباب.
دليل على ذلك عندما أقام الفنان القدير ميحد حمد حفله في إكسبو، كان عدد مهول من الشباب دون سن الـ30 يملؤون المكان بشكل جعلني أتساءل: كيف لأغانٍ أنتجت في سبعينات وثمانينات القرن الماضي أن تعيش لعقود طويلة، وتتعاقب عليها أجيال مختلفة، وتتفاعل معها، رغم كل الأشكال الموسيقية العصرية الرائجة؟!
لم تكن أمامي سوى الإجابة التي ذكرناها في البداية، وهي أن ما نبع ببساطة من القلب بصدق، يصل إلى قلوب الآخرين.
وراء هذا الاستوديو شخصية كانت معطاءة وشغوفة وصادقة إنسانياً وفنياً، وهو القدير عبيد القبنجي، أسأل الله أن يؤتيه الصحة والعافية. بدأ بتسجيلات واستوديو بسيط في منطقة السطوة في النصف الثاني من ستينات القرن الماضي، وغيّر محله ثلاث مرات، بل كان لديه استوديو في المغرب أيضاً، يسجل فيه قصائدنا النبطية الجميلة بأصوات من المغرب العربي، ومنح فرصاً لشباب كثر كان ينتج لهم الأعمال على نفقته الخاصة، ويقرب الفجوة بينهم وبين أهم شعراء الإمارات.
قد تصرف أموالٌ كثيرة على أعمال فنية وإنتاجات ضخمة، وكم من أعمال فنية أنتجتها جهات وشركات ومؤسسات ضخمة بالنفخ فيها لتتنفس وتعيش، لكنها ماتت رغم كل ما صرف عليها من مبالغ ضخمة لم تشفع لها، ولم تجدها كل محاولات الإنعاش المادية والتسويقية في إحيائها في أذهان الجمهور!
لم يكن الأستاذ عبيد القبنجي ليثري مكتبة الإمارات الفنية بأعمال متميزة لولا أنه أسس هذا المكان بحب، وملأه بالحب، فأنتج كل ما هو صادق وجميل وقريب من الشعب.. من تسجيلات الشعب!
ibrahimustadi@
لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه.