في المقهى مع «كافكا»

هناك مدن تصنع تاريخاً ثقافياً موازياً للتاريخ الرسمي. تاريخاً تكتبه الأماكن وأسماء الشوارع وأصناف المآكل وتنوع اللباس. طافت بذهني هذه الفكرة بإلحاح وأنا أتناول قهوتي وأتذوق أطيب الحلويات النمساوية في «كافيه سنترال» بفيينا، مقهى في كل زاوية منه تشم عبق التاريخ فعلى هذه الطاولة كتب بيتر ألتنبرغ، أشهر شعراء النمسا قصائده، وفي ذلك الركن المنزوي كان كافكا يتخيل رواد المقهى صراصير كبيرة. قرابة 150 سنة والمقهى قبلة الأدباء والسياسيين والسياح والفضوليين، ويحتاج زائره إلى الوقوف في صف طويل ليحظى بطاولة جلس عليها قبله فرويد أو تروتسكي أو غيرهما ممن تركوا بصمة في تاريخ الإنسانية.

تذكرت وأنا محاطة بصور الأدباء ما حلّ مثلاً بمقاهي بيروت التي كانت مصدر إشعاع في السبعينات، فمقاهي الويمبي والهورس شو والمودكا والكافي دو باري التي صنعت مجد تاريخ شارع الحمرا وجدتها حين زرتها قبل أشهر تحولت إلى محال أكل سريع أو ملبوسات. ولم يبق من الشارع سوى ما يبقى على عجوز من آثار جمالها الماضي.

لا يمكن فصل المقاهي عن الحراك الثقافي، فالفلسفة الوجودية بنت مقهى «فلور» حيث كان يجلس سارتر ودي بوفوار، ومن قرأ سيرة هيمنغواي الذاتية «وليمة متنقلة» يلمس مدى دور المقاهي في صناعة الحدث الثقافي، وللعالم العربي أيضاً نصيب وافر من ذلك، فثلاثية نجيب محفوظ بنت أجواء «مقهى الفيشاوي»، والسخرية الجارحة حد الوجع التي تميز بها محمد الماغوط رأت النور على طاولات مقهى «الهافانا» الدمشقي، أما مقهى الزهاوي في شارع الرشيد ببغداد فشاهد على قصائد الجواهري والرصافي. وهكذا كل عاصمة عربية لها مقهاها الأدبي، غير أن الفرق بيننا وبين الغربيين - للأسف - أننا نغتال كل جميل حتى نكاد نصبح بلا ذاكرة. فما الذي يحول دون أن يكتب أدباؤنا تاريخ المقاهي وأثرها في الثقافة مثل ما فعلت صديقتي الشاعرة ميسون صقر في كتابها «مقهى ريش.. عين على مصر». أو الكتاب الممتع المفيد لجيرار لومير «القهوة والأدب .. المقاهي الأدبية من القاهرة إلى باريس» الذي يفاجئنا بالحديث عن مقاهٍ أدبية في اليمن ومكة وأماكن لا نتوقعها.

من المعيب أن تطالعنا الصحف مرة بعد أخرى بهدم بيوت رموزنا الثقافية والفكرية في الوقت الذي يصبح فيه مقهى جلس فيه كافكا أو فرويد معلماً سياحياً يزوره سنوياً 600 ألف سائح. وكم هو جميل رؤية ظاهرة بدأت في الانتشار تزاوج بين المقهى والكتاب رأيتها في عواصم عربية عدة، لكن الأجمل أن نحافظ على تاريخ صامت حفظته المقاهي التاريخية التي تحولت من حاضنة للإبداع إلى مطاعم «همبرغر».

• كل عاصمة عربية لها مقهاها الأدبي، غير أن الفرق بيننا وبين الغربيين - للأسف - أننا نغتال كل جميل حتى نكاد نصبح بلا ذاكرة.

DrParweenHabib1@

لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه. 

الأكثر مشاركة