مواسمُ الخيرات

أكرم الله تعالى عباده المؤمنين بمواسمَ فاضلة ليغرسوا فيها فسائل الطاعات، فيجنوا منها ثماراً يانعات، في الحياة وبعد الممات، ومن أجلِّ هذه المواسم وأعظمها عشرُ ذي الحجة التي ميزها الله تعالى عن غيرها بعظيم أجرها وكثير خيرها، كما ثبت في الحديث: «ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر، فقالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء».

وهذا نفي يراد به الحصر، أي حصر العمل الصالح الأكثر ثواباً وفضلاً في هذه الأيام، عنه في غيرها، وهذا ما استغربه الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فقارنوه بأكثر الأعمال الصالحة ثوابا فيما يعلمون، وهو الجهاد في سبيل الله الذي فيه مخاطرة بالنفس والمال، والذي قال الله تعالى فيه: ﴿وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا﴾، فأكد لهم النبي عليه الصلاة والسلام أن العمل الصالح في هذه الأيام هو أكثر فضلاً وأجراً من الجهاد في سبيله، إلا أن يكون قد استشهد؛ فإن الشهادة أمرها أعظم من ذلك.

لا جَرَم فقد نوه الله بفضلها، حيث أقسم بها بقوله: ﴿وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ﴾، ليعرف الناس مكانتها عنده سبحانه.

ولما كان فضلُ هذه الأيام عظيماً، فقد يسره الله تعالى لعباده ليأتي كلٌّ منهم ما استطاع من عمل، حيث لم يحدده بنوع واحد أو مخصوص من الأعمال، لينافس كل واحد بما يستطيع، من صلاة أو ذكر أو صدقات أو صيام أو بِر أو صلة رحم أو تلاوة، أو غير ذلك من وجوه البر والخير الكثيرة، لئلا يفوتَ على أحد شيءٌ من فضل هذه الأيام، ما دامت نيته قائمةً، وسعى لتحصيل فضلها وأجرها، وهذا فضل من الله تعالى كبير على عباده المؤمنين حتى يسارعوا في الخيرات ويسابقوا إليها، كما أمر سبحانه بقوله: ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾.

وأعظمُ ما يكون فيها من الأجر بعد أداء المفترضات؛ ذكرُ الله تعالى فيها كثيراً، كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من أيام أعظمُ عند الله، ولا أحبُّ إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهن من التهليل، والتكبير، والتحميد»، وهذا ما أشار إليه الذكر الحكيم بقوله سبحانه: ﴿وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ﴾، لأن ذكر الله تعالى أعظم الطاعات، كما قال سبحانه: ﴿وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾، وكما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ألا أخبرُكم بخير أعمالكم، وأرفعها في درجاتكم، وأزكاها عند مليككم، وخيرٍ لكم من إعطاء الذهب والورِق، وخيرٍ لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم، ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: بلى، قال: ذكر الله تعالى»، فبين الحديث أن الذكر هو أفضل من كل ما عدَّده من خصال الخير، وهو ما فهمه الصحابة رضي الله عنهم. كما روى البخاري تعليقاً أن ابن عمر وأبا هريرة رضي الله تعالى عنهما كانا: «يخرجان إلى السوق في أيام العشر يكبران، ويكبر الناس بتكبيرهما»، حتى يذكّرا الناس بفضل الذكر في هذه الأيام، وهذا ما يعرف بالذكر الجماعي.

فكل هذه الدلائل ترشح للمؤمن ما ينبغي أن يعتني به في هذه الأيام من كثرة ذكر الله تعالى، ومنه التكبير والتحميد والتهليل وقراءة القرآن والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

فينبغي الحرص على الأذكار سراً وجهاراً في الخلوة والجلوة، والمنشط والمكره، حتى لا يحرم المسلم من عظيم أجر هذه الأيام الفاضلة. جعلنا الله من الذاكرين الله كثيراً.

*«كبير مفتين مدير

إدارة الإفتاء في دبي»

لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه.  

الأكثر مشاركة