أوجاع امرأة متعبة

تشبهنا المدن التي تسكننا كثيراً، بل هي نحن، تفرح مثلنا وتحزن، تكتئب أحياناً وتصل حدّ الانطواء على نفسها، وتتجلى فاتنة أحياناً أخرى تغوي العابرين بسكناها. وأصعب ما يمرّ بها حين تتغير ملامحها فلا يكاد يعرفها من ألفها، وتتحول إلى امرأة مجهولة وهي التي كانت نجمة أضواء، ينظر إليها غريب حائر.

هذه الأفكار تملكتني وأنا أزور بيروت التي عرفتها أوّل مرة في مطلع الألفية الثانية عام 2000 تحديداً، وتكررت زياراتي لها سياحة وعملاً، وكانت عندي المدينة التي تجيد فن مصادقة الحياة، متجددة دوماً ولا تملّ من أن تخرج مفاجآت جميلة ومدهشة من صندوقها.

كانت تغويني دائماً بما يُعرض في مسارحها، وما يدور في جلسات المثقفين مقاهيها في شارع الحمراء من أحاديث تختصر لك ربيع الثقافة في العالم في زجاجة عطر لبنانية. وفي هذا الشارع بالذات لابد من زيارة الثالوث المقدس بالنسبة لي: مكتبات أنطوان والفرات وبيسان لأتزود بما أثمرته مطابع العالم العربي.

فيها صوّرت مع بيار ضاهر، وقابلت يمنى العيد، ورافقت محمد علي شمس الدين، وزرت أنسي الحاج في مكتبه. وعرفت معنى أن تكون لبنانياً تضع قدماً في الشرق وأخرى في الغرب، لكنّ قلبك معلق بكل ما هو أنيق وحديث وجميل.

كنت أتوقع أن أجدها مختلفة، وقد عصفت بها رياح ثلاث: الكوفيد وانفجار المرفأ والأزمة الاقتصادية، كنت أتوقع ذلك وأنا أزورها من يومين للمشاركة بالفيلم الذي كتبتُه ومثلتُ فيه «الوهم الأخضر» في مهرجان بيروت الدولي لسينما المرأة، لكن لم أتوقع حجم ما خلفته فيها هذه الكوارث الثلاث من آثار. أصبحت بيروت مدينة باهتة بلا ضوء، تغرق في العتمة ويحاصرها الهدوء وهي التي كانت صاخبة لا تهدأ كصبية في العشرين تنهب مباهج الحياة. يقفز الخوف من المستقبل من أعين الناس وضاعفت الهزات الأرضية المتتالية من مخاوفهم، مضافة إلى قائمة طويلة من المشاكل المستعصية ليس أقلها الغلاء والكهرباء وتدني الخدمات.. ومع هذا لايزال اللبناني صامداً بل مصرّاً على الحياة بدءاً بالسيدة الأنيقة المضيافة التي أفطر عندها صباحاً في فندق جميل يقبّل موج البحر أقدامه بـ«جونية» وليس انتهاء بالطلبة المتطوعين في المهرجان بحيويتهم وشغفهم بالسينما، وهم يتحولون إلى خلية نحل لا تهدأ في خدمة الضيوف.

بيروت امرأة متعبة، تحتاج بعضَ الراحة ثم تقوم لترتدي أجمل أثوابها وتتعطّر وتتأنق وتخرج إلى الحياة - تماماً كما فعلت بطلة فيلم «الوهم الأخضر» - وهي تدندن مع فيروز بأغنية «إيه في أمل».

بيروت تحتاج بعضَ الراحة ثم تقوم لترتدي أجمل أثوابها وتتعطّر وتتأنق وتخرج إلى الحياة.. وهي تدندن مع فيروز بأغنية «إيه في أمل».

@DrParweenHabib1

 لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه. 

الأكثر مشاركة