الموسيقى

تعزف على أوتار القلوب فتأنس وحشتها ويهدأ ضجيجها، تحفر نقوشاً من الذكريات تقفز مع كل استماع لها، فتعيد الماضي بكل تفاصيله الجميلة والموجعة.

لا نعرف سرها ولا كيف تفعل بنا ما تفعله، بهجة وسعادة ووجداً، توقظ أحلى ما فينا: إحساس مرهف ومشاعر فياضة وراحة كبيرة وسط عناء الأيام.

تملأ الكون تفرداً وإبداعاً، ويطرب لها الطير والشجر، وتداعب الخيال، وتملأ النفس بِشراً وإقبالاً على الحياة. تُسعدنا ونحن لا ندري مصدر سعادتنا بها، وترسم عالماً بلون الفرح، وتصاحبنا في الوحدة والانكسار. تُشارك قلوبنا خفقات الحب الأول، وتخبئ الأسرار والحكايات، وتحكي عنا ما لا نريد البوح به. تُعذبنا وتقتلنا ألف مرة، وتنكأ الجراح حين تصادفنا وحدنا بعد فراق الراحلين وغياب من باعدتنا عنهم المسافات.

تذكّرنا بمن خذلونا بعد أن عشنا دهراً نظن أننا تعافينا منهم، وتعيدنا للألم ذاته الذي دفناه وواصلنا الحياة. نعرفها كصديق قديم باقٍ على العهد والوفاء، نعود لها فتُرَوِح عنا الهم وتعيد نشاط الأبدان.

هكذا الموسيقى نور يضيء العتمة وصوت عذب ونفحة من نفحات الجنان، لا أدري كيف حوّلها البعض إلى صخب بلا معنى وضجة بلا إحساس، وفرضها على جيل بأكمله.

تحولت الموسيقى من هواية وإبداع وموهبة يصقلها التعليم والخبرات إلى شيء عصي على الوصف، ثقيل على الأذن، يصاحبها التوتر وعدم الارتياح.

مفزع أن نرى أبناءنا وهم يستمعون إلى ذلك النشاز الذي ينتشر حولنا بكل اللغات، فيجعلهم أكثر عنفاً وتحفزاً وكأن تلك الموسيقى الصاخبة تخفي خلفها شيئاً مجهولاً وغريباً على مجتمعاتنا.

كيف تخلينا عنهم ولم نعوّدهم سماع الموسيقى الراقية ظناً منا أنها ميول شخصية أو رفاه لا ضرورة.

نحتاج إلى أن نعيد النظر فيما يستمع إليه أطفالنا، إن كانوا صغاراً فالمهمة أسهل، ولو كانوا كباراً فالحوار والمشاركة وإيقاظ إحساسهم الراقي أفضل طريق.

الحس الراقي يخلق تعاملات راقية متحضرة تراعي مشاعر الآخرين وتحدب عليهم وتترفع عن أذيتهم، ولا ترى بطولة في إحراجهم أو الضغط على مناطق ضعفهم، وهو غرس تربوي وتوجيه أسري بالدرجة الأولى.

نحتاج إلى أن نتعلم - نحن وأبناؤنا - أن الحياة تحتمل كل الأشياء وعكسها، وعلينا أن نختار ما يصقل شخصياتنا ويعلي شأننا في كل شيء، وأن نعوّد آذاننا على الطيب والراقي والمرهف من الأقوال والأصوات.

الموسيقى سر عظيم من أسرار الكون، ولوحة بديعة الحسن تحسها القلوب قبل الآذان، ونسمة ترطب هجير الأيام، وحرام أن يُحَرِمها إنسان وأن يُحرم منها.

• تحولت من هواية وإبداع وموهبة يصقلها التعليم والخبرات إلى شيء عصي على الوصف، ثقيل على الأذن، يصاحبها التوتر وعدم الارتياح.

amalalmenshawi@

لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه. 

الأكثر مشاركة