رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمُّه

هنيئاً لحجاج بيت الله الحرام الذين لبَّوا نداء ربهم سبحانه فحجوا بيته الحرام، ووقفوا بالمشاعر العظام، وأدَّوْا منسك الحج الذي هو تمام أركان الإسلام، وأحد مبانيه العظام، فقد حُطَّت خطاياهم، وعظُمت حسناتُهم، واستُجيبت دعواتهم، فليس لهم جزاءٌ إلا الجنة، كما صح به الحديث.

الجنةُ التي وعدها الله تعالى عباده المتقين وأعدها لهم، الجنة التي تجري من تحتها الأنهار، لهم فيها ما لا عينٌ رأت، ولا أُذُنٌ سمعت ولا خطر على قلب بشر، الجنة التي هي «لَبِنة من فضة، ولَبِنة من ذهب، ومِلاطها المسك الأذفر، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وترابها الزعفران».

هذه الجنة أعدت للمتقين، وهم الذين لقَوْا ربهم وهم مطهرون من الذنوب كيوم ولدتهم أمهاتُهم، كما يكون من الحج الذي ورد فيه قوله عليه الصلاة والسلام: «من حج لله فلم يرفث، ولم يفسق، رجع كيوم ولدته أمُّه» أي نقِياً مطهراً من الذنوب، كأنه ولد تلك الساعة.

غير أن هذا الفضل العظيم غيرُ قاصر على من تشرف بحج بيته الحرام، فإن الله تعالى قد وعد آخرين بمثل ذلك، كما جاء على لسان رسوله عليه الصلاة والسلام؛

«فمن صلى الغداة فقعد مقعدَه فلم يلغُ بشيءٍ من أمر الدنيا، ويذكر الله تعالى حتى يصلي الضحى أربع ركعات، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمُّه، لا ذنب له».

و«من مشى في حاجة أخيه المسلم كتب الله له بكل خطوة يخطوها حسنةً إلى أن يرجع من حيث فارقه، فإن قُضيت حاجتُه خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، وإن هلك فيها دخل الجنة بغير حساب».

و«من أكل فشبع، وشرب فروي، فقال: الحمد لله الذي أطعمني فأشبعني، وسقاني فأرْواني، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمُّه»

ومن ابتُلي بمرض فصبر واحتسب فإنه يقوم من مضجَعِه ذلك اليوم كيوم ولدته أمُّه من الخطايا، ويقول الله عز وجل: «إني أنا قيدتُ عبدي هذا وابتليته، فأجروا له ما كنتم تجرون مثل ذلك وهو صحيح».

ومن صام رمضان وقامه إيماناً واحتساباً خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمُّه».

ومن قام يتوضأ فغسل كفيه خرجت ذنوبُه من كفَّيه، ثم إذا مضمض واستنشق خرجت ذنوبُه من خياشيمه، ثم إذا غسل وجهه خرجت ذنوبُه من وجهه وسمعه وبصره، ثم إذا غسل ذراعيه خرجت ذنوبُه من ذراعيه، ثم إذا مسح برأسه خرجت ذنوبُه من رأسه، ثم إذا غسل رجليه خرجت ذنوبُه من رجليه، ثم إذا قام إلى الصلاة خرج من ذنوبِه كيوم ولدته أمُّه.

إلى غير ذلك من الفضائل التي وعد الله تعالى المتحلِّين بها غفران الذنوب وجعْلِهم كيوم ولدتهم أُمَّهاتهم؛ لأنه سبحانه جوادٌ كريم، يحب الجود، ولا يريد أن يعذب عباده لو أنهم آمنوا وشكروا، واتبعوا النُّور الذي أنزل على رسوله عليه الصلاة والسلام، وسابقوا إلى الخيرات، كما قال جل شأنه ﴿مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا﴾ فهو سبحانه لا تنفعه الطاعة كما لا تضره المعصية، ولكنه يحب أن يطاع، ويكره أن يعصى، لأن من أطاعه عرف ربوبيته واستحقاقه للطاعة، ومن عصاه استخف به فهانت عليه نفسه أن تتعرض لسخطه سبحانه، وهو جل شأنُه أخفى رضاه في طاعته وإن قلّت، وأخفى غضبه في معصيته وإن هانت، فما على العبد إلا أن يتلمس مواضعَ طاعة ربه سبحانه فيبادر إليها إجلالاً له، وابتغاء رضوانه عزَّ شأنُه، فلعله يصادف المغفرة بما لم يخطر على باله، وكذلكم الابتعادُ عن المعاصي حتى لا يكون قد استخف بمولاه تقدس شأنُه، ولذلك ورد في الأثر: «لا تنظر إلى صغر الخطيئة، ولكن انظر من عصيت» وهذا ما يُسمى بمحاسبة النفس، وهي محاسبة مطلوبةٌ حتى لا يستقلَّ المرء المعصية فقد تكون فيها قاصمته كما ورد «يا عائشة إياك ومُحقِّرات الأعمال، فإن لها من الله طالباً» ومثل ذلك الطاعات فلا يستقلها المرء كما صح في الحديث «اتَّقوا النار ولو بشِق تمرة»

نسأل الله تعالى أن يجعلنا مسارعين للخيرات، نافرين عن المعاصي والسيئات، ممن كتب لهم الله واسع الجنات.

«كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»

لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه. 

الأكثر مشاركة