إنِّي صائمٌ

أرشدنا نبينا عليه الصلاة والسلام أن نصون صيامنا بقوله: «الصيام جُنَّة فلا يرفُث ولا يجهل، وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل: إني صائمٌ مرتين».

فجملة «إني صائم» لها معان عظيمة، فهي مثل بطاقة التعريف التي يحملها المرء في صدره ليُعلم من هو، فيُتعامل معه على أنه متنسِّكٌ لربه، فيعان، لا أن يهان بقول أو فعل.

«إني صائم» تعني: أنني مراقب ربي سبحانه في هذه العبادة، فلم يعجزني عنها بمرض أو كِبر أو سفر، وهي العبادة الأحبُّ إليه سبحانه فاختصها بنفسها، لذلك فأنا أقدر هذا التشريف الذي شرفني فيه ربي، فأتقرب إليه بهذه العبادة العظيمة كما يحب جل شأنه من الإخلاص والمراقبة.

«إني صائم» تعني: أنني أعامل غيري ممن يجهل علي بالصبر والحلم والعفو، فلا أجاريه فيما يقوله أو يفعله، بل إنني أرحمه وأتحسر عليه: كيف يهدر صومه بصخب، فضلاً عن سباب وسيئ القول؟! وقد أرشدنا نبينا عليه الصلاة والسلام بأن من مقتضيات الصوم صيانته من اللغو والرفث، وليس فقط عن الأكل والشرب، فإن الصوم عن الأكل والشرب قد يكون حمية أو مجاعة، وأن الصوم الحقيقي هو الذي تصان فيه اللسان عن الغيبة والنميمة والكذب وقول الزور.

«إني صائم» تعني: أنني لا أكتم أمر صيامي كما أكتم أمر صدقتي، بل أجهر به ليعلم غيري أن عدم مجاراته في قوله وفعله غير الحسن لا لعجز، بل لأني مراقب ربي الذي هداني لهذا التشريف، فلا أضيعه لنزغة شيطانية، ومحاسب نفسي فلا أنتصر لها لأحقق رغبتها بالتشفي الذي قد يتبعه تمادٍ فتكون نتيجته نُكرى، ولأعلِمه أن سلوكه خالٍ من المراقبة الإلهية والمحاسبة النفسية التي حملته على اتباع الهوى والشيطان الحريصين على إضلال المرء وحرمانه من فضل هذه العبادة العظيمة.

«إني صائم» تعني: أنني أستشعر وظائف الصوم الفُضلى من صون جوارحي عما لا يرضي رب البرية، فكما أصون لساني عن المخاصمة، وعن الكذب والغيبة والنميمة، كذلك أصون نظري عن المحرمات، وأصون فؤادي عن الحسد والغش والخيانة؛ لأنني أعلم أنني مسؤول عن ذلك، وأنه لا تخفى على الله خافية.

«إني صائم» تعني: أنني أسعى للغاية التي من أجلها شُرع الصوم، وهي الوصول إلى مرتبة التقوى التي هي خير زاد ليوم المعاد، والتي تكون ثمرتها جنات ونَهَر أعدت للمتقين، فلاأزال أتزكى بهذا الصيام حتى أتحقق بمعانيه، وأصل إلى مراميه، ومنها أن أكون ممن هم {فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ}، ويقال لهم: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ}.

«إني صائم» تعني: أنني أستبق الخيرات، وأنافس في الطاعات، لمعرفتي أن لهذا الشهر مزية على غيره في كل خير أفعله، فقيامُه قسيم صيامه موجبان لمغفرة ما تقدم من الذنوب، وتلاوةُ القرآن فيه تعني تذكر جليل نعمة الله بنزوله في هذا الشهر ليكون دستور حياتنا، وهادياً لنا للتي هي أقوم من العقائد والشرائع والعبادات، والتقربُ إلى الله تعالى فيه بالصدقات يعدل الفرائض في سائر الأوقات، وتفطيرُ الصائمين يكسب مثل أجرهم، والجودُ فيه تأسياً بالنبي عليه الصلاة والسلام الذي كان أجود ما يكون في شهر رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن فلهو أجود بالخير من الريح المرسلة.

فاللهم اجعلنا لك صائمين، لك قائمين، لك مخبتين، وتقبل ذلك منا يا أرحم الراحمين.

* «كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»

لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه.  
 

الأكثر مشاركة