فضل يوم عرفة

يوم عرفة هو أفضل أيام الدنيا، كما صحّ في الحديث عن النبي، عليه الصلاة والسلام، حيث يقول: «ما من يوم أفضل عند الله من يوم عرفة، ينزل الله إلى السماء - يعني نزول تجلٍّ ورحمة - فيقول: انظروا إلى عبادي شُعثاً غُبرا ضاحِّين، جاؤوا من كل فج عميق، ولم يروا رحمتي ولا عذابي، فلم يُر أكثرَ عتيقاً من النار من يوم عرفة»، وفي حديث آخر يقول صلى الله عليه وسلم: «فما من يوم أكثر عتيقاً من النار من يوم عرفة وإنه ليدنو، ثم يباهي بهم الملائكة، فيقول: ما أراد هؤلاء»؟!

وهو استفهام تقريري يُظهر الله فيه رضاه عن عباده الواقفين في هذا المشعر العظيم، لملائكته الكرام، وأن الله تعالى قد أعطاهم مرادهم.

يوم عرفة هو المقصود الأعظم من نسك الحج، كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «الحج عرفة»، أي هو الركن الأعظم الذي يفوت النسك بفواته، وفيه تكون الفيوضات الربانية والنفحات الإلهية على عباده الذين يتعرفون عليه، ويلبون نداءه، فيحجون بيته العتيق، ويجتمعون في صعيد عرفة لا تجمعهم فيه مصالح دنيوية ولا منافع عاجلة، بتذلل وافتقار، وتوبة وانكسار، فيباهي الله، عز وجل، بالواقفين ملائكته، أي يفاخر بهم، فهو اليوم مشهود، كما جاء عن أبي هريرة، رضي الله عنه، وهو يوم الكرم والجود من الرب المعبود سبحانه.

هذا اليوم الذي يجتمع فيه حجاج بيته وقد تجردوا من ملابس الزينة وأنواع التنعم بالطيبات، إلى ملابس تشعر بالتجرد عن الدنيا وتوحي بملابس الآخرة، والانتقال إلى الرفيق الأعلى سبحانه، فيظهر بذلك الحال فقرهم ومسكنتهم، وذلك هو ما يحبه الله من عباده.

وقد ورد أنه «ما رُئي الشيطان أصغر ولا أحقر ولا أدحر ولا أغيظ منه في يوم عرفة، وما ذاك إلا أن الرحمة تنزل فيه فيتجاوز عن الذنوب العظام».

هذا اليوم الذي أكمل الله تعالى فيه الدين، وأتم فيه النعمة، كما قال سبحانه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}، ففيه عَظُمت مِنَّةُ الله تعالى على عبده ورسوله المصطفى، صلى الله عليه وسلم، وعلى أمته من بعده، والذي غبطتنا عليه يهود وقالت «لو علينا معشر يهود نزلت هذه الآية، لاتخذنا ذلك اليوم عيداً، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: فقد علمت اليوم الذي أنزلت فيه، والساعة، وأين رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزلت، نزلت ليلة جَمعٍ - أي ليلة مزدلفة بعد الإفاضة من عرفات - ونحن مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم بعرفات»، وفي هذا إقرار منه، رضي الله عنه، على أن هذا اليوم يوم عيد لإتمام الدين فيه، وفي الآية الكريمة إشارة إلى أن الحج هو تمام الدين، ولذلك كان خاتمة أركان الإسلام العملية لمن استطاع إليه سبيلاً، ومن لم يستطع فركنه هو الاعتقاد والإيمان بركنيته، وهذا من سماحة الدين ويسره فلم يوجبه في كل حال كما أوجب الصلاة.

هذا اليوم الذي خطب فيه النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، خطبته العظيمة التي وضع فيها قواعد وأسس العدالة الاجتماعية في الأموال والدماء والحقوق الأسرية، وعظَّم فيه الحرمات، فكان مما قاله فيها: «فإن دماءكم وأموالكم عليكم حرام، وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا، إلى يوم تلقون ربكم، ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم، قال: اللهم اشهد، فليبلغ الشاهد الغائب، فرب مبلغ أوعى من سامع، فلا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض».

هذا اليوم الذي يشمل الله تعالى بفضله جميع عباده، مَن حج منهم فبذلك التجلِّي العظيم، وبالمغفرة العامة وبالعتق من النيران، ومن لم يحج فبمشاركته الحجاج بالتبتل إلى الله تعالى، بذكره وشكره وصيامه، كما صح عنه صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم: «أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة، وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له»، فهو دعاء وذكر اليوم، فيشمل من كان واقفاً بعرفة ومن كان في داره، فالمسلمون كلهم يلهجون بذكر الله والدعاء له، فيشتركون في الفضل مع حجاج بيته الحرام، لاسيما وقد حجَّت قلوبهم ونياتهم، حيث لم يستطع مريدو الحج ومستطيعوه مادياً وجسدياً، أن يحققوا أمانيهم بسبب هذا الوباء العارم، إلا بنياتهم، فلن يحرمهم الله أجر الحج وفضله، كما صح في الحديث «نية المؤمن خير من عمله».

نسأل الله تعالى أن يشملنا بفضله وعفوه وعافيته.

«كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»

لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه. 

الأكثر مشاركة