مساحة حرة

بين الاحتكار والابتكار

فيصل محمد الشمري

كانت قضية مكافحة الاحتكار في الولايات المتحدة، التي أدت إلى تفكك شركة الهاتف والتلغراف الأميركية القديمة، إلى شركات تشغيل إقليمية سبع جديدة، تعود إلى صراعات اقتصادية وتشريعية حكومية، تقاوم الاحتكار والممارسات غير الصحية اقتصادياً، واستمرت عقوداً، وتمثل دروساً يجب النظر إليها من قبل الاقتصاديين والمشرعين في دول العالم كافة. فالغاية هي المصلحة العليا، ومصلحة الوطن، لا مصلحة الشركات، وإنشاء امبراطوريات اقتصادية، تعزز الاحتكار.

وكذلك كانت قضية الولايات المتحدة ضد شركة «مايكروسوفت» قضية مشهورة ضد الاحتكار، اتهمت فيها بالمحافظة بشكل غير قانوني على وضعها الاحتكاري في سوق أجهزة الكمبيوتر الشخصية، وبشكل أساسي من خلال القيود القانونية والتقنية التي تضعها على قدرات الشركات المصنعة لأجهزة الكمبيوتر والمستخدمين، حيث قضت المحكمة بأن التصرفات تشكل احتكاراً غير قانوني، بموجب المادة (2) من قانون «شيرمان» لمكافحة الاحتكار.

إن مفهوم الاقتصاد الدائري يتطلب فهماً مركّباً وتطبيقاً نوعياً لينجح، وتحقيق ذلك يأتي عبر مسؤولية مجتمعية، قد تخفض الربحية التجارية لبعض الوقت، ولبعض القطاعات، لكنها ستعزز القيمة المحلية المضافة، والدورة الاقتصادية بشكل جذري، وتخالف مفاهيم الممارسات الاحتكارية.

فإن لم تكن المشاركة طوعية، وجب أن تتحول إلى إلزام تشريعي، وضوابط اقتصادية ملزمة، تحكمها غرامات نافذة، فمن غير المعقول أن نشاهد شركات عملاقة تستخدم امتيازاتها، وتحتكر أنشطة وعقوداً مكملة لعملها في مجالات اقتصادية، لا تمت بصلة لنشاطاتها الأساسية التي رُخِصت وأنشئت لأجلها، لا لشيء إلا لأن أحد متخذي القرار فيها رأى أنه يمكنهم أن يرفعوا الأرباح عن طريق إنشاء شركات أخرى، لا تمت بصلة للنشاط الأصلي في المجموعة.

فمثلاً نرى عملاقاً وطنياً في قطاع التقنية والاتصالات، يحتكر أعمال إدارة المرافق في مجموعته، في شركة أنشئت بغية عدم الاستعانة بشركات خارجية، لتوفير بعض المبالغ، بدلاً من إعطائها لشركات محلية متخصصة.

ونفاجأ بأن خدمات اتصالات الأفراد (الأغلى في المنطقة)، وخدمات الشركات والخدمات الحكومية، لحقتها خدمات مرتبطة بأنظمة الوقاية والإنذار من الحرائق. وبدأوا بدراسة تطوير أنظمة وسجلات طبية، وقدموا خدمات وأنظمة أمنية وأنظمة مراقبة، وخدمات أمن شبكي واختبارات اختراق، ناهيك عن مشروعات الاتصالات الفضائية، والأقمار الاصطناعية، وحلول الاستضافة.

وفي مشهد آخر، نرى شركة وطنية أخرى برأسمال يتجاوز الـ10 أصفار، تنشئ شركة لتأجير المركبات بإدارة أجنبية، لا لشيء إلا لحصر تأجير المركبات في مجموعة الشركات التابعة لها، في الشركة التي أنشأتها، ولتجنب التعاقد مع الشركات الموجودة في السوق لهذه الغاية، علماً بأن قطاع تأجير المركبات يعاني تباطؤاً في العمل منذ أعوام.

إن مكافحة الاحتكار التقليدي أمر وصلت فيه الدوائر المعنية إلى نضج مؤسسي متميز، لكن الاحتكار غير التقليدي هو تحدي المرحلة. ويجب تعديل التشريعات الاقتصادية لمنع الامبراطوريات التجارية من أن تصاب بالتخمة والترهل والتوسع السرطاني المؤذي للممارسات الاقتصادية الصحية، وأن تسعى لتصحيح تطبيق خاطئ لمفهوم «زيتنا في دقيقنا»، كونه سيعطل عجلة الاقتصاد الدائري، ويؤخر الابتكار، أو يحرمنا من امتيازات دورة نظام بيئي محفز للابتكار، ويخلق بيئة اقتصادية مبنية على تطبيقات وممارسات احتكارية، قد تعطل نمو المشروعات الصغيرة والمتوسطة، بل وقد تسهم في وأدها.

إن توجيهات صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، بضمان عدم منافسة الشركات العقارية شبه الحكومية للمستثمرين من القطاع الخاص، نبراس للعمل المتكامل، وحتمية أن تطور آليات العمل بعيداً عن الاحتكار أو التنافسية غير الصحية، والآخذ بالتجربة التشريعية في تقسيم شركة (AT&T) لأسباب قانونية، ولمنع الاحتكار، مفيد كمقارنة معيارية ونموذج قد يسهم في وقف هذه الممارسات الاحتكارية، لضررها بعيد المدى.

ونأمل من الشركات الحكومية أو المسجلة في سوق الأوراق المالية، أو الشركات العائلية والخاصة، أن تراعي تجنبه، قبل أن تقوم الجهات المعنية بحوكمته ومراقبة الالتزام به ومنعه.

لنركز على النمو الصحي المستدام، والمبني على الابتكار في تطوير تخصصاتنا، بما يعزز تنافسية وطننا.

ونتطلع لجلسات اقتصادية تنظمها وزارة الاقتصاد، وهيئة الأوراق المالية والسلع، والجهات المعنية، مع رواد الأعمال والجهات المتأثرة بهذه الممارسات. فإن أردنا أن نكون مقر تأسيس ونجاح الجيل القادم من «أمازون» أو «تيسلا» أو «مايكروسوفت» أو «غوغل»، وغيرها من قصص النجاح لريادة الأعمال، لنحمهم، ولنرعَ نموهم، ونخلق بيئة اقتصادية مثالية، تعزز الابتكار والتنافسية، وتحمي هذه القطاعات بشكل استباقي وغير مسبوق، بإطار من التشريعات والحوكمة والضوابط، وتكريم الممارسات الإيجابية والإسهامات المؤسسية المحفزة، وتصدر تقارير امتثال القرارات والقوانين السيادية ذات الصلة بدعم ريادة الأعمال في الدولة، فهذا مفصل النجاح بين الاحتكار والابتكار.

- مستشار تحول رقمي ومحاضر وخبير تميّز مؤسسي معتمد

لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه. 

تويتر