معرفة القضايا الفقهية المعاصرة ضرورة

الحياة المعاصرة تعِج بقضاياها الجديدة التي لم يكن لها نصوص فقهية سابقة، وتحتاج نظراً فقهياً لاحقاً، والمسلم مكلف شرعاً بأن يعرف حكم الله تعالى فيها، حتى يظل في سياج الشرع الشريف غير مفرط في دينه، ولا واقع في حدود الله تعالى، ومهما كان المرء مطلعاً على كتب الفقه التراثي، فإنه لن يجد بغيته في معرفة ما استجد من الأمور؛ لأن تراثنا الفقهي لم ينص عليها بذاتها صراحة، حيث لم تكن قد وجدت فلم تبحث إلا صوراً افتراضية قليلة، إلا أنهم وضعوا نصوصاً عامة وقواعد للاستنباط مأخوذة من نصوص ظنية، تُمكِّن الفقيه من الاجتهاد في ما يستجد من النوازل، فكان لابد من البحث الجاد للقضايا المعاصرة تكييفاً لها، وتنزيلاً للحكم الشرعي عليها.

وقد تناول فقهاء العصر كثيراً من قضايانا المعاصرة في العبادات والمعاملات المالية والاجتماعية والتقنية، والصناعية والطبية والجينية والأطعمة، والأحوال الشخصية والإعلامية وقضايا السلم المجتمعي والدولي.. وغيرها كثير، ومثل هذه القضايا لا يكفي فيها إعمال النظر الفردي؛ لأن النظر الأحادي مهما كان ملماً بجوانب القضية ومنقحاً للمناط ومحققاً له؛ فقد تخفى على الفرد قضايا أخرى لم تكن على بال، لأنه ما من قضية معاصرة إلا ولها ارتباط بقضايا أخرى تؤثر في القضية المطروحة للحكم، وقد تخالفها أو تشابهها في التصور.

فالفقيه الناظر لمسائل العبادات لا يكفيه أن يعرف أسباب وجوبها أو ندبها، وتحقق شروط صحتها وأركانها وسننها، حتى يعلم ما يؤثر في السبب فيمنعها، وفي الوجوب أو الصحة فيبطلها، ولا يقدر الفقيه الناظر في قضية طبية أن يحكم عليها بالحل أو الحرمة أو الوجوب حتى يصورها الأطباء المختصون من جميع جوانبها ويبينوا سلبياتها وإيجابياتها، وما يترتب عليها من مصالح أو مفاسد، وكذلك القضايا الأخرى في كل الشؤون، ما يحتم أن يكون النظر في القضايا الفقهية المعاصرة نظراً مؤسسياً تقوم به المجامع ودور الفتوى والمؤتمرات والندوات التابعة للهيئات المعنية بتلك القضايا، التي يجتمع فيها المتخصصون لكل قضية، وهو ما يتم عمله في عصرنا الحاضر، فقد قامت مؤسسات كثيرة ببحث مستجدات الأمور وأفادت كثيراً في القضايا التي طرحت في بساط البحث، كما يفعل مجمع الفقه الإسلامي الدولي، والمجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي، ومجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف، ومجلس الإمارات للإفتاء الشرعي، وإدارة الإفتاء بدائرة الشؤون الإسلامية والعمل الخيري، وهيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية، والمجلس الشرعي لهيئة المحاسبة والمراجعة المالية بالبحرين، ومجمع الفقه الهندي، والمجلس الأوروبي للإفتاء، وغيرها.. فأثرت الساحة العلمية ببيان أحكام القضايا المعاصرة الكثيرة، وحصل بها الاطمئنان والعمل، ولايزال البحث جارياً في قضايا أخرى كثيرة، هي محل نقاش وأخذ وردّ حتى يتم التصور الكامل لتنزيل الحكم الشرعي المناسب.

والذي يعنينا هنا هو تهيئة جيل من طلاب العلم قادر على المشاركة في بحث القضايا الفقهية المعاصرة، وذلك بتأهيله أولاً بالتأصيل المعرفي فقهاً وأصولاً وقواعد فقهية ومقاصدية، ونحوية ولغوية ومنطقية، وكيفية الاستدلال من النصوص الشرعية والقواعد الفقهية، والمقاصد المرعية والنظرة الواقعية، حتى تكون لديه ملكة حسن النظر وصحة الاستدلال، ليصل إلى التصور الصحيح والحكم الصريح، وهذا ما يتعين أن تُعنى به الجامعات والكليات المتخصصة، كما تفعله جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية التي خصصت مساقات في مرحلتَي الماجستير والدكتوراه لبحث القضايا المعاصرة، وكما يفعله مركز الموطأ في مادة فقه الواقع والمتوقع، وتفعله بعض الجامعات والكليات الأخرى كذلك، فإن مثل هذه المساقات تهيئ، إن شاء الله تعالى، جيلاً من طلاب العلم الشباب ليكونوا مؤهلين للاجتهاد في بحث القضايا المستجدة التي يفرضها العصر، وبذلك نوازن بين التخصصات العلمية التجريبية والتقنية، والتخصصات النظرية التي يحتاجها المجتمع المسلم في دينه ودنياه، فإن الحياة المعاصرة تحتاج بشدة لمثل ذلك كله، ولابد من هذا التوازن حتى نسد حاجاتنا الدينية والدنيوية.

ولا ينبغي أن ينظر إلى أن الحياة المعاصرة هي حياة مادية؛ فإن هذا القول يناقض الواقع الذي يعيشه المجتمع المسلم المحافظ، كما هو مجتمعنا، فإننا لو تركنا مثل هذا التأهيل لاحتجنا لاستيراده ولابد، وقد لا يكون المستورد مناسباً؛ لأن للواقع أثراً في تنزيل الحكم الشرعي تتعين مراعاته.

«كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»

لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه. 

الأكثر مشاركة