5 دقائق

ذكرى المولد النبوي

د. أحمد بن عبدالعزيز الحداد

تتجدد علينا ذكريات متعددة، وطنية وشخصية واجتماعية، فتهيِّج أشجاننا إلى تلك الذكرى، ونعدها نعمة متجددة أن عشنا حتى عادت علينا، وهذا أمر مغروس في النفوس لا يمكن تجاهله، ويشير إليه قول الحق سبحانه وتعالى: ﴿وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ﴾، وقد لا يترتب على تلك الذكريات شيء ذو بال.

- تجدد الحديث عن الذكرى يجعل القلب يجدد العهد بالمذكور.

إنما ذكرى مولد النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تعني لنا معاشر المسلمين شيئاً كبيراً؛ فهي الذكرى التي كان فيها بزوغ ولادة سيد البشر، الذي جعله الله تعالى رسولاً لكافة خلقه من إنسه وجنه، وختم به رسالاته، وجعل رسالته انقلاباً لتغيير الوضع البشري الجاهلي فيكونَ وضعاً آخر، يعرف ربه ويعبده ويتحلى بقيم الدين الحنيف، فلم تكن ولادة عابرة كما يولد كل إنسان، بل كان لها وضع خاص في الكون كله، لذلك تفاعلت معها السماء بالحراسة، والرسالات السابقة بالبشارة بها، والمجوسية بانطفاء معبودها، والوضع الجغرافي باتصال نور الولادة بأرجاء الأرض، والكهانة بصدق التنبؤ.. لتكون هذه الأحداث مؤْذنة بأن هذا المولود له شأن كبير عند ربه وما يُهيّئ له، وكما أشار إلى ذلك عمه العباس بشعره الذي ألقاه عليه فقال:

وأنت لما ولدت أشرقت الأرضُ وضاءت بنورك الأفقُ

فنحن في ذلك الضياء وفي النــــــــــور وسبل الرشاد نخترقُ

وهو ما نشأ عليه هذا المولود من وضع مختلف عن غيره من سائر الناس؛ فكانت نشأة فريدة وسلوكاً أخلاقياً عظيماً، وبركة مصاحبة له أينما وحيثما حلَّ، وعناية ربانية لا تتوارى.. إلى غير ذلك ما تميزت به هذه الولادة المباركة.

فإذا ما حل شهر ربيع الأول كان لابد أن يوجد في نفوس المؤمنين وجدانٌ آخر نحو صاحب الذكرى عليه الصلاة والسلام، فيحبون سماع سيرته وشمائله، وما أرسل به، ومنزلته بين الرسل، وأثره على الأمم، ومكانته عند الله، وما أعطاه ربه من الشفاعة، وما نالهم من فضل بسبب هذا المولود العظيم.. وإن كانت معلومة لدى بعضهم، فإن الكثير منهم لا يعرف شيئاً منها، ومن عرف فإنه لا يمل سماعها، بل يرى أن كامل الأنس بتجدد سماع تلك الشمائل والأخبار، كما قالوا:

أعد ذكر نَعمان لنا إن ذكره هو المسك ما كررته يتضوعُ.

ذلك أن تجدد الحديث عن الذكرى يجعل القلب يجدد العهد بالمذكور، ويزداد تعلقاً به؛ لأن الغفلة عنه تكون ضرباً من ضروب الهجر، وذلك ما لا يقبل من محب للمحبوب، بل يعد ذلك من الجفاء الذي لا يقبل بين المحبين، ولهذا يكون هذا الاحتفاء والاحتفال بصاحب الذكرى، في العالم الإسلامي كله؛ ليجددوا معالم محبته، واتباع شريعته، فيدرسون ما خطه العلماء الأفاضل من محدثين حفاظ وفقهاء أجلاء ومؤرخين محققين وغيرهم بما سمي «مولد» من مئات المؤلفات، وهو في الحقيقة سيرة مختصرة تقرأ في مجلس واحد، يذكر فيها أبرز الأحداث التي صاحبت ولادة سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ونشأتُه وبعثته، وجهاده، وشيءٌ من شمائله وأخلاقه العظيمة، لتكون أخلاق أمته من بعده، وشيءٌ من الثناء عليه صلى الله عليه وسلم من الشعر الذي كان يحبه ويثيب عليه، والذي فيه أدب جم، ودعوة مباركة للتحلِّي بصفات الممدوح عليه الصلاة والسلام، ومثل هذه الأمور وإن كانت مطلوبة من المسلم في كل زمان ومكان، إلا أن للتاريخ مناسبته التي لا تخفى، وكما يقول الشاعر: «والشيء بالشيء يذكر».

وإذا كانت مثل هذه الأمور مستحسنة لدى السابقين، مع أن كثيراً منهم كان على صلة بالعلم ومعرفة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأقربهم زمناً إليه، فزماننا الذي فشا فيه الجهل، وقَلَّت المعرفة، وضعُفت مكارم الأخلاق، فنشأت ناشئة لا تعرف من النبي صلى الله عليه وسلم إلا اسمه الأول، ولا من الأخلاق والفضائل إلا رسمها، فإن هذا الزمن أجدر بتدارس هذه السيرة المباركة، وغرسها في نفوسنا ونفوس أبنائنا الذين امتلأت ساحات ذاكرتهم بالألعاب والأفلام والبرامج غير المفيدة، فضلاً عن غير اللائقة، حتى نتعرف ويتعرفون إلى ذلكم المجد المُؤَثَّل الذي يفاخرون به الآخرين، فنحن الأمة التي تتصل بماضيها اتصالاً مباشراً وكأنه حديث الساعة، بفضل هذا النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم. رزقنا الله كمال محبته وتمام متابعته.

«كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»

لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه. 

 

تويتر