5 دقائق

وما لنا ألا نتوكل على الله؟!

د. أحمد بن عبدالعزيز الحداد

التوكل على الله شأن المؤمنين الصادقين الواثقين بربهم، الذين يعلمون حقاً أن ربهم سبحانه هو المسيّر لهم المدبر لشؤونهم، فلذلك لا يعدلون عن التوكل على الله تعالى بشيء في جميع أمورهم، كما أخبر الله جلّ ذكره عن سادات المتوكلين وهم المرسلون، بقوله سبحانه: {وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا}، والمعنى: أيُّ عذرٍ لنا في عدم التوكل عليه تعالى مع ما منَّ به علينا من الهداية لمعرفته والإيمان به، وأوضح لنا أنه الفعَّال لما يريد، ولا يكون في ملكه إلا ما يريد، ونحن العبيد لا نملك لأنفسنا نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً؟! فهو استفهام إنكاري لمن يُعرض عن التوكل على ربه سبحانه، ويعتمد على ذاته أو حيلته، وها هو العالم يعيش في وباء الكورونا منذ سبعة أشهر، وقد قضَّ مضجعه، وفعل فيه ما لم يفعله أي وباء سابق، مع أن هذا العالم يعيش أوج تحضره وتقدمه الصناعي والمعرفي والتقني، ومع ذلك بقي عاجزاً عن أن يجد دواءً ناجعاً يكبحه أو يوقفه عند حده، فدل على عجزه وضعفه، فتحقق فيه قول الحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم: «واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيءٍ قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيءٍ لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفعت الأقلام وجَفَّت الصحف».

إن المقدور الذي كتبه الله على عباده في هذا البلاء لم تدفعه العقاقير ولا الاحترازات، فقد ظل ينتشر في العالم انتشار النار في الهشيم، فكان الحال كما قال ابن الوردي في لاميَّته:

فاترك الحيلةَ فيها واتكل * إنما الحيلة في ترك الحِيَل

نعم نتوكل على الله ونأخذ الأسباب التي أمرنا بها الشرع الحنيف، ولا نتوقف عن أعمالنا وشعائرنا وما تقتضيه حياتنا وتجيزه أنظمتنا الراعية لنا، وننال بذلك أجر المتوكلين، ونريح أنفسنا من الخوف الذي هو سبب رئيس في مضاعفة المرض، وإضعاف مناعة المرء.

إن التوكل على الله تعالى بحد ذاته عبادة عظيمة فهو يوجب للعبد محبة ربه سبحانه وتعالى كما قال: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}، فتأمل هذا الخطاب القرآني الذي كان موجهاً لسيد المتوكلين وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي قال في أشد الحالات خوفاً: {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}، ويقول: «ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما؟!». كل ذلك ليعلمنا كيف يكون التوكل الذي تكون معه محبة الله تعالى، هذه المحبة التي تلحق العاجز بالواصل تُدرك بمثل هذا التوكل الذي هو عمل القلب وطمأنينته بربه سبحانه، فلا يحتاج جهداً ولا مؤنة، فلعلَّ هذا البلاء الذي حل بالعباد يكون سبباً لإدراكهم هذا الفضل العظيم لو أنهم توكلوا على الله حق توكله.

فنحتاج أن نستثمر هذه المحنة لتكون مِنحَةً إلهيةً، فإنه ما من محنة وإلا وفي طيها منحة لو أن العبد تقبلها قبولاً حسناً، ورضي عن ربه، واشتغل بما ينفعه، ولم يعجز ولم يتوان، وما أحوجنا لأن نكون من المتوكلين حتى ننال أجرهم وننسى همّ الوباء والبلاء، ونجعل همنا هماً واحداً، وهو كيف نعمل لآخرتنا التي هي مآلنا ومستقرنا وحياتنا الأبدية، كيف نستعد للقاء لله فنعمل ما يحببنا للقائه سبحانه وتعالى، فيحبَّ لقاءنا كما قال عليه الصلاة والسلام: «من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه». ولا تحب لقاء الله إلا إذا كنت متوكلاً عليه مفوضاً أمرك إليه عاملاً بطاعته، مجتنباً معصيته، تتودد إليه بما يحب، واجتناب ما يُبغِض، تعمل لآخرتك كأنك تموت غداً، وتعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، وتعلم أن الدنيا لا تخلو من الأسقام والآلام والمصائب، ولا بد من تجاوزها بالاشتغال عنها بما ينسيها مما ينفع في الحال والمآل، نحتاج أن نكون مستشعرين معية الله لنا؛ لأننا المؤمنون به الواثقون بوعده، المرهوبون من وعيده، الراجون رحمته، وبذلك نتغلب على ما أصابنا بصدق التوكل، فندرك حسن المآب إن شاء الله تعالى.

«كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»

لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه. 

تويتر