مساحة حرة

التناسب في القانون الدولي العام

الدكتور مطر حامد النيادي

التناسب مبدأ قانوني يعود في جذوره إلى القانون الجنائي، ويهدف إلى التأكد من أن العقوبة على القيام بجريمة معينة تكون مساوية في شدتها لنوع وجسامة وآثار الجريمة.

فالتناسب مبدأ يستخدمه المشرع والقاضي عند اختيار نوع العقوبة التي تفرض على الجاني للتأكد من وجود نوع من المساواة والعدالة بين العقوبة كأداة لجبر الضرر الذي وقع من الجريمة والفعل الخطأ. وفي القانون الدولي العام تطور مفهوم التناسب Proportionality وأصبح يؤدي أدواراً ومهام مختلفة تختلف باختلاف أفرع القانون الدولي العام.

ويظهر دور التناسب جلياً في القانون الدولي الإنساني أو قانون المنازعات المسلحة والقانون الدولي للبحار والقانون الدولي الاقتصادي والمسؤولية الدولية عن ارتكاب أخطاء أو الاخلال بالتزام دولي.

ففي القانون الدولي الإنساني يكون للتناسب دور محوري في تقييم قرارات أطراف النزاع عند اختيارهم لنوع الأسلحة المستخدمة في أرض المعركة، وهل هناك مبرر لاستخدام سلاح أكثر فتكاً دون غيره وحجم الضرر الذي يفترض إلحاقه بالعدو لإرغامه على التوقف عن أعماله العدوانية التي يقوم بها، أو لممارسة حق الدفاع عن النفس لحماية مصالح الدولة.

ففي الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية في قضية مشروعية استخدام السلاح النووي ذكرت المحكمة أنه لا توجد قواعد تحظر استخدام السلاح النووي للدفاع عن النفس في حالات الضرورة التي يكون فيها بقاء الدولة مهدداً بالزوال، وعليه ففي غير حالات الضرورة فإن استخدام حق الدفاع عن النفس مقيد بأحكام القانون الدولي، والتي من بينها معيار التناسب، لتقييم مشروعية هذا الاستخدام.

وفي القانون الدولي للبحار وبالأخص في قواعد تحديد الحدود البحرية يبرز دور التناسب للتأكد من عدالة خط الوسط المقترح ومدى تأثير جزيرة معينة أو مجموعة جزر، أو اختلاف في طول السواحل بين أطراف الخلاف، أو وجود مصائد أسماك أو ثروات طبيعية في منطقة الخلاف على عدالة خط الوسط، ومدى الحاجة لتعديله للوفاء بمتطلبات العدالة.

كذلك للتناسب دور في تقييم الإجراءات التي تفرضها الدول لحماية البيئة البحرية ومدى توافقها مع حرية المرور أو حق المرور البريء. وفي اتفاقيات التجارة العالمية لمعيار التناسب أو الضرورة مجموعة من الاستخدامات، منها تقييم الإجراءات الوقائية التي تقوم بها الدول لحماية الأسواق فيها من ظاهرة الإغراق التي تقوم بها دول أخرى، ومدى تناسب هذه الإجراءات الوقائية مع الحاجة لمكافحة الإغراق دون الإخلال بحرّية التجارة العالمية.

كذلك يكون للتناسب دور في تقييم حق الاستعانة بقاعدة الاجراءات المضادة التي تلجأ لها الدولة المتضررة في مواجهة الدولة المتسببة بالضرر.

وفي قوانين الاستثمار يبرز دور التناسب لتسوية المنازعات التي تقع بين الأجهزة الرقابية في دولة ما وبين المستثمر الأجنبي الذي يتمسك بالإطار العام لحماية الاستثمار الأجنبي المنصوص عليه في اتفاقيات الاستثمار الدولية.

فمعيار التناسب يقوم بدور في تقييم هذه الإجراءات الوطنية ومدى الحاجة لها لتحقيق مصلحة وطنية أو منع ضرر معين من الوقوع دون الإخلال بحق المستثمر الأحنبي في الحماية المنصوص عليها في اتفاقيات الاستثمار الدولية، والتي على أساسها قام بالاستثمار في تلك الدولة.

فمعيار التناسب في القانون الدولي العام هو أحد المبادئ التي يلجأ إليها القضاء الدولي في الأحوال التي يحال إليه فيها الخلاف، لتقييم فعل أو إجراء أو اختيار معين قام به أحد أطراف النزاع لتحقيق هدف معين ومدى تناسب هذا الفعل أو الإجراء أو الاختيار مع التزامات هذا الطرف القانونية المقررة بموجب اتفاقيات دولية أو قواعد قانونية عامة.

والتناسب بهذه الصورة يعتبر اختبار توازن للتأكد من تجنب إساءة استخدام الحق، وذلك بتقييم الإجراءات أو الاختيارات المتخذة ومدى توافقها مع مبادئ العدالة.

مستشار في القانون الدولي العام

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .


«في قوانين الاستثمار يبرز دور التناسب لتسوية المنازعات بين الأجهزة الرقابية».

تويتر