سريالي

راسكولنيكوف و«الجوكر»

أحمد المظلوم

«هل هو أنا فقط، أم أن العالم أصبح مجنوناً من حولي؟».

«الجوكر»

بشكل يبعث على الدهشة يضحك بشكل هستيري، ثم يدخل في نوبة ذعر يتصبب منها عرقاً، ثم يصرخ في وجه كل من يقابله حانقاً على نفسه والحياة، ثم على حين غرة لا يبالي بذاك كله، وكل فعل تفصله فترات خاطفة عن الفعل الآخر! قد يربط البعض منكم هذه التصرفات المضطربة القلقة بشخصية آرثر فليك، بطل قصة فيلم الجوكر، الذي اقتحم دور السينما الأسبوع الماضي، وسرق الأضواء من كل الأفلام السينمائية اليتيمة، التي عرضت في تلك الفترة حتى أصبح حديث الساعة والدقيقة كذلك! لكن في حقيقة الأمر هذه الأفعال الغريبة لم تصدر من قبل شخصية الجوكر فقط، بل صدرت من الشاب الروسي راسكولنيكوف بطل رواية «الجريمة والعقاب» للكاتب الإنساني العظيم فيودور دوستويفسكي، وتدور أحداث الرواية في أحد أحياء مدينة سان بطرسبرغ الفقيرة، حيث كان الطالب الجامعي الشاب رودوين راسكولنيكوف يكمل دراسته في القانون، وقد عاش حياة مريرة صعبة، واشتدت به الفاقة إلى أن اضطر يوماً لأن يرهن بعض أملاكه عند إليونا إيفانوفنا أو كما تعرف بالعجوز المرابية، وفي لحظة غضب عارم قرر راسكولنيكوف أن ينتقم منها ويقتلها بسبب فكرة عظيمة «كما يزعم» استحوذت على عقله، فذهب إلى شقتها وقتلها بدم بارد شر قتلة، ثم قتل أختها التي لم يكن لها ذنب إلا أنها وجدت في ذلك المكان ساعة ارتكابه جريمته الشنعاء! ثم نجد راسكولنيكوف يدخل في دوامة من العذاب النفسي يصفها لنا دوستويفسكي بدقة بارعة! إلى أن انتهت به الحال إلى تسليم نفسه لمركز الشرطة والاعتراف بالجرم الذي ارتكبه. ولمن لم يقرأ «الجريمة والعقاب» فالرواية الحقيقية تبدأ بعد جريمة القتل، ويكمن جوهرها وجمالها في الغوص داخل دهاليز العقل الإجرامي بجموحه المتطرف وظلماته السحيقة.

ونجد في فيلم الجوكر حالة مشابهة للرواية، فقد نجح المخرج تود فيليبس، وبطل القصة آرثر فليك (الجوكر)، في إبراز سيكولوجية هذه الشخصية الملغزة بشكل رائع، حيث تأخذنا أحداث القصة في رحلة قد توصف بالمأساوية داخل عقل الجوكر لترينا الكيفية التي يتعاطى بها المصاب بمرض عقلي مع هذا الواقع والعالم، وهي خطوة حاذقة من المخرج لإثارة التعاطف مع هذه الفئة من البشر، التي تكون على شفير الهاوية على الدوام وعرضة للسخرية والإهانة، نظراً لحساسيتها المفرطة نحو الناس والأشياء، ولن أجد من يعبر عن هذه الحالة أفضل من الجوكر نفسه، بقوله: «إن أسوأ جزء في كونك مريضاً عقلياً، هو أن الناس تتوقع منك أن تتصرف كأنك لست كذلك».

راسكولنيكوف والجوكر كلاهما تحول إلى مجرم في نهاية المطاف، بعد أن أعرض عنهما المجتمع وأذاقهما من صروف العذاب، ونلاحظ أن في القصتين كانت هناك لحظة حاسمة غيرت مجرى الأحداث بالكامل، وهذه اللحظة كانت عبارة عن فكرة قد تولدت واستبدت بهما بشكل كامل لتسيطر على مسار حياتيهما القادمة، فراسكولنيكوف اعتقد اعتقاداً صادقاً بل قد أقول آمن بأنه إنسان خارق مثل نابليون وحق لنفسه ارتكاب ما شاء من الجرائم ليحقق غايته، ثم يبرر ذلك بقوله: «أنا لم أقتل كائناً إنسانياً، وإنما قتلت مبدأ»، والجوكر الذي كاد أن يقتل نفسه أثناء مقابلة تلفزيونية حية لولا قراءته لفكرة قد دونها في مذكراته الشخصية «سأترك لكم عناء البحث عنها»، وهذه الفكرة جعلته يعدل عن قتل نفسه ليقتل مقدم البرنامج عوضاً عن ذلك لتبدأ مسيرة الجوكر الدموية!

فكرة واحدة قد تغير كل شيء.. إما إلى الأسوأ أو إلى الأفضل.. فكرة واحدة فقط!

Ahmed_almadloum

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

تويتر