5 دقائق

العِلْم والمُعلِّم

د. أحمد بن عبدالعزيز الحداد

يحتفي العالم بيوم المعلم في الخامس من أكتوبر كل عام، ويكثر فيه الإطراء للمعلم، والإشادة بدوره الحيوي في تنشئة الأجيال الواعية، وما يؤمَّل أن يصنعه في جيله من ثقافة، ويغرس فيه من قِيم... وحُق للمعلم الكثير مما يقال، والأعظم مما يُبذل، والأكبر مما يستحق؛ لأنه أساس كلِّ رُقي علمي وحضاري وثقافي وتكنولوجي وغير ذلك، فالأمة التي أضاعت المعلم أضاعت هويتها وحاضرها ومستقبلها، فتعيش بين الأمم بوصف العدم، وبقدر نسبة تعلمها تكون منزلتها بين الأمم.

ومع ضرورة إكرام المعلم إكراماً لائقاً بمكانته في المجتمع، فإن العِلم الذي نريده منه ينبغي أن يكون هو الأول في الإكرام والاهتمام والبذل، ذلك أن المعلم وسيلة والغاية هي العلم، والوسيلة وإن تقدمت على الغاية وضعاً، فإن الغاية هي المقصودة طبعاً، فماذا نريد من المعلم أن يعلمنا؟

قد يقال إن الحياة الراهنة هي التي تفرض العلم، ونحن في عصر التكنولوجيا، والرَّقْمنة، والفضاء، فلا نريد من المعلم إلا ذلك!

وهذا تصور قد يكون خاطئاً، لأن الأمة تعيش بمقوِّمات كثيرة، لا تستغني بواحد دون آخر، وكل مقوِّم يحتاج علماً ناهضاً لها يغنيها عن غيرها، ويحقق لها ما تصبو إليه، فنحن وإن كنا في عصر الفضاء والتكنولوجيا والتقنية الرقمية، إلا أن حاجتنا إلى ثقافتنا الإسلامية والعربية لا تقل أهمية عما ذكر من علوم العصر، بدليل أننا إذا افتقدنا ذلك ذاتياً احتجنا إلى استيراده ولابُد، وقد نستورد ما لا يحقق لنا الطموح، بل قد يكون عكس المراد، وإذا لم نهتم بلغتنا افتقدناها وعشنا بلا هوية ولا تاريخ، وبذلك نكون عالة على الأمم التي حافظت على لغتها وصدرتها لنا، فلا نكون في مستواها - وإن قبلتنا كدخلاء- ولا يكون لنا أصل نرجع إليه، فنُزدرى بين الأمم والحضارات.

لذلك يتعين الاهتمام بالعلم أولاً، وذلك بأخذه أصولاً وفصولاً وفروعاً، فنأخذ بجميع أطرافه التي لا غناء عنها البتة؛ فقهاً في الدين الإسلامي العظيم الذي نعيش بها مكرمين مميزين مفضلين على غيرنا الذين ابتعدوا عن الهدى، واختاروا أن يعيشوا في معمعة الأهواء، فنعرف هذا الفقه حق المعرفة بمشاربه المعتمدة وأصوله الممنهجة، ونظرياته القابلة للتطبيق، المسايرة للحياة، حتى لا نخدع فيه، ولا يُزايد علينا به.

ورسوخاً في الثقافة الواسعة التي تجمع شتات المعارف النافعة، فتجعل المرء حاضراً مع أطياف الحياة المختلفة، الماضية والحاضرة والمستقبلة.

وحفاظاً على اللغة التي هي هويتنا الحقيقية ومصدر فخرنا، والتي هي ثابتة ثبوت الإسلام، وباقية ببقائه، وهي اللغة الوحيدة في العالم التي لا تقبل الاندثار، مهما حصل لها من إهمال من أهلها.

وكذلكم علم الطب والاجتماع والتاريخ والأدب والرياضيات والفيزياء والكيمياء، وغيرها من العلوم التي تمكَّن منها أسلافنا، وأسهموا فيها إسهاماً عظيماً لازالت الأمم مدينة لهم بها.

إن هذه العلوم هي التي يجب أن تكون محل اهتمامنا لتوفيرها لجيلنا وأجيالنا القادمة، فنوفر وسائلها ومراجعها، ونغذي أبناءنا وبناتنا بل كبارنا وصغارنا منها، فنحيي مناهجها ومدارسها ونسيِّر لها الرواد، تشجيعاً وعوناً حتى ينالوا منها النصيب الأوفى، وبذل هذا كله يحتاج إلى علماء متخصصين تخصصاً دقيقاً، فإن كانوا بين ظَهْرانينا من مواطنين أو مقيمين أو زائرين فنِعمّا ذلك، وبه يتحقق المراد بأقل التكاليف، وإن لم يوجدوا فلنستقطبهم من حيث كانوا.

إن تحقيق هذا المراد هو ما يسعى إليه شيوخنا الكرام وحكومتنا الرشيدة، فإنهم وفروا سبل المعارف بتهيئة مراكز العلم من مدارس ومعاهد وجامعات ومكتبات ومعارض وغير ذلك، وجعلوا الجوائز التشجيعية والمنافسات الدولية لتحقيق ذلك، ومع كل ذلك لم نر الأمل المنشود من هذه العلوم والمعارف؛ لأنها تحتاج إلى معلم كفؤ يستطيع أن يبذل هذه العلوم، فإنها لا تُنال بمجرد الرغبة والقراءة الآنية أبداً، فكان علينا أن نوفر هذه الكفاءات العلمية، ونوليها اهتمامنا اللائق حتى تعطينا المعارف المنشودة، ومثل هذا المعلم هو الذي أنشئ له يومُ المعلم العالمي، وهو الذي قال فيه شوقي:

قم للمعلم وفِّه التبجيلا.. كاد المعلم أن يكون رسولا

اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما.

«كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه. 

تويتر