5 دقائق

القيم المفقودة

د. أحمد بن عبدالعزيز الحداد

يتحدث الناس كثيراً عن القيم الخُلُقية التي ينبغي للمسلم التحلي بها، من إخلاص وصدق وكرم وشجاعة وحلم وصبر وعفو وصفح وحياء وبر ووفاء وأمانة ولين ومروءة، وغير ذلك، لأن ديننا الإسلامي العظيم دين أخلاق قيِّمة، حتى أن سيدنا عبدالله بن عباس، رضي الله عنهما، فسّر قوله تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾، فقال: «على دين عظيم وهو الإسلام»، ولذلك قالوا: «الدين كله خلق»، يعني أن تشريعاته الإيمانية والتعبدية والمعاملات المادية والاجتماعية كلها مصبوغة بالصبغة الأخلاقية، فيتحدث الناس عن هذه القيم العظيمة، ليكونوا على دراية بمكانتها فيتحلون بها، فيكون ذلك ثباتاً لهم في الدين، وزيادة فيه، وتثقيلاً لموازين أعمالهم، كما روى أبوالدرداء، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «أثقل شيء في الميزان الخلق الحسن»، بل إن أكثر ما يدخل الناس الجنة «تقوى الله وحسن الخلق»، كما صح من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه، وكثير من الناس يدرك هذا الفضل بحمد الله تعالى، بسبب ذلكم الحث والترغيب والتذكير.

- المدنية الحديثة أنست

الناس القيم حتى

كادت تُفقد أو تُنسى.

ولكنْ هناك أخلاق حُرم منها اليومَ كثير من الناس، كالإيثار والنجدة، وإغاثة الملهوف، ونصرة المظلوم، وإكرام الجار، وبذل المعروف، والشفاعة الحسنة، والإعانة على نوائب الحق..، فإن المدنية الحديثة أنست الناس هذه القيم، حتى كادت تفقد أو تنسى، فلا تكاد تجد اليوم من يؤْثِر غيره عن غنى، فضلاً عن أن يؤثره عن خصاصة، مع أن هذه قيمة عظيمة، سجّل الله عزَّ ذكره ثناءَه العظيم على أبي طلحة الأنصاري، رضي الله عنه، الذي كان منه ذلك الإيثار، ولو أن أحداً كان مثل أبي طلحة لشمله شيئاً من ذلكم الثناء، فإنه ثناء بالوصف لا بالشخص، وكم من الناس اليوم الذين يحتاجون الإيثار بشيء من مالك أو جاهك أو شفاعتك أو غيرها، فلو أن من يملك شيئاً من ذلك نفع أخاه القريب أو البعيد لكان من المؤثرين على أنفسهم، فينال تلك الإشادة الربانية والأجر العظيم على التحلي بهذه القيمة العظيمة.

وقل مثل ذلك في إغاثة الملهوف، ونصرة المظلوم، ومعونة ذي الحق، وغيرها مما يحتاجه الناس، ويقدر عليه بعضهم، فإن هذه قِيمٌ إسلامية وعربية عظيمة، ينبغي أن تكون حاضرة في المجتمع المسلم، ولو في الحد الأدنى، حتى يرتفع الحرج عن الباقين، فإنها توجد في الأمم الأخرى، وتجد الصدى الإعلامي الذي يشيد بتلك الأمة كلها، كما كان لتلك المرأة الأميركية التي تبرعت بجزء من كبدها لطفل مسلم لا تعرفه، ونحن أولى بذلك منهم، لأننا نعملها تديناً، وهي من أعظم الأسباب التي توجب لصاحبها السلامة من مصائب الدهر، كما قالت أم المؤمنين السيدة خديجة، رضي الله عنها، لرسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، قبل بعثته ليتمم مكارم الأخلاق: «والله لا يخزيك الله أبداً»، وكما ورد «إن صدقة السر تطفئ غضب الرب، وإن صنائع المعروف تقي مصارع السوء»، وقديماً أقامت قريش في جاهليتها حِلفاً لنصرة المظلوم، وإقامة الحق والعدل، سمي «حلف الفَضول»، أثنى عليه النبي، صلى الله عليه وسلم، بعد بعثته، وقال: «شهدت حلفاً في دار ابن جُدعان، ولو دعيت به في الإسلام لأجبت، وما أحب أن أخيس به، وإن لي حُمُر النَّعَم»، كل ذلك لأنه يحمي هذه القيم، ويحفظها، ويجعل المجتمع متكاتفاً متراحماً.

وإن بحثنا عن سبب قلة وجود هذه القيم اليوم، لوجدنا أن منها الأنانية المفرطة التي شاعت في المدنية الحاضرة، فأنست الكثيرَ قيماً نبيلة في شرعنا وثقافتنا العربية الإسلامية، وقد كانت سائدة، حتى من غير أهل ديننا، كوفاء السَّمَوْأَل، وهو يهودي، وكرم حاتم، وهو جاهلي، وشجاعة عنترة، وهو عبد جاهلي، إلى غير ذلك، فينبغي أن تظل حاضرة ظاهرة، ومنها عدم الاهتمام الثقافي والإعلامي بهذه القيم، فليس هناك من يمجدها أو يثني على أهلها، حتى المناهج التعليمية أو الدروس والخطب الوعظية لا تُعنى بشيءٍ من ذلك، فينبغي أن يتعاون الجميع على نشر ثقافة هذه القيم والحث عليها لنحيي ما اندرس منها في مجتمعاتنا العريقة.

«كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»

لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه. 

تويتر