5 دقائق

وداعاً لشهر رمضان

د. أحمد بن عبدالعزيز الحداد

ودعنا شهراً من أعمارنا، وجملة صالحة من أعمالنا، لكننا نَستبقي ذلك عند ربنا في كتاب لا يضل ربنا ولا ينسى، فهو القائل سبحانه في الحديث القدسي «كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به»، وهي إضافة احتفاءٍ بالعمل وتشريف للعامل، وكان من بنود تشريفه أن وفقه للصيام والقيام إيماناً واحتساباً، فلن يضيع عمله، ولا يخيب سعيه، مضى هذا الشهر الطيب الذكر، الذكي الرائحة، السعيد في ساعاته وكل أوقاته، مضى كأنه «ما زار حتى ودّعا»، فما أسرع أن تقضّت أيامه وتصرمت لياليه، كشأن الأيام السعيدة!

- «مضى هذا الشهر

الطيب الذكر، الذكي

الرائحة، السعيد في

ساعاته وكل أوقاته،

مضى.. وكأنه ما زار

حتى ودّعا».

كان ضيفاً خفيفاً في مكثه مع أنه جاء يحمل أثقال الهدايا الربانية، والمنح الإلهية، ما جعله محبوباً مرغوباً مطلوباً، غير ثقيل النزول، ولا بعيد الوصول، ولكن ماذا نفعل له وقد شد الرحل على أمل العود في عام جديد - بلغنا الله جميعاً ذلك اليوم الموعود- ماذا نفعل فلا نملك لبقائه حولاً ولا لعوده طولاً، إلا أننا نرجو أن نكون قد أكرمنا وفادته وأنزلناه منزلاً يليق بما حمله من نفحات وبركات، فإن كنا قد فعلنا ذلك فحمداً لله وشكراً، ومن شكره أن نشعره بعدم الاغترار والعجب، بل بأننا لم نوفه حقه كما كان سلفنا الصالح يفعلون ويقدمون، لما نحن عليه من القصور، وما نعيشه من فتن، فلعله يقبل عذرنا، ويكون ذلك سبباً لأن يمنّ الله تعالى بعودنا إلى أمثاله، وعلينا مع ذلك أيضاً أن يكون عندنا وفاء لما عاهدنا الله فيه يوم أن صمنا بجوارحنا وشعورنا؛ لعلمنا أنه سبحانه رقيب علينا، فإنه بعد رمضان كذلك، فنسعى جاهدين لحفظه وعدم هدمه، لأن الهدم بعد تشييد البناء يعتبر حُمقاً وإفلاساً، ويكون كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً، والحفاظ على هذا البناء بأن نواصل صيامنا بصيام؛ فإن من صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر، وصيام ثلاثة أيام من كل شهر كصيام الدهر، وصيام الإثنين والخميس تأسياً بالحبيب المصطفى، عليه الصلاة والسلام، فإن ذلك من أدل الأدلة على حبنا لشهر الصيام، وأننا لا نريد مفارقته لو أنه شُرع لنا.

وقيامنا نوصله بقيام الليل الذي هو من أفضل الأعمال عند الله، كما قال عليه الصلاة والسلام: «الصوم جُنَّة، والصدقة تطفئ الخطيئة، وصلاة الرجل في جوف الليل، ثم قرأ: {تتجافى جنوبهم عن المضاجع}»، فهو قيام العام، وليس قيام الصيام فقط، ولذلك كان من فضل الله تعالى على عباده أن شرع لهم التبتل إليه في غسق الليالي ودياجير الظلام ليجدوا الأنس معه سبحانه وتعالى، وهو يقول: «هل من سائل يعطى؟ هل من داع يستجاب له؟ هل من مستغفر يغفر له؟ حتى ينفجر الصبح»، وهذا القيام الذي يتنافس فيه المتنافسون، ويتميز به الصادقون والمخلصون، ولا يفقد من هذا القيام في سائر العام إلا الاجتماع له.

وتلاوتنا القرآن الكريم ليس لها موسم محدد، وإن كان شهر رمضان الأجدر بها كثرةً وتدبراً ومدارسة، لأنه موسم تنزله وتشرف الأمة به، إلا أنه يظل بين أيدينا وينادينا أن هلموا إلى العطاء غير المجذوذ، والفضل غير المحدود، فتضاعفُ الحسنات بقراءته غير مقيد بزمان ولا مكان، وإن كان لشرف الزمان والمكان فضل في كماله، إلا أن أصله باق، فلنحرص على تعهده ولا نهجره، فإن أصغر البيوت بيت ليس فيه من كتاب الله شيء، فاقرؤوا القرآن، فإنكم تؤجرون عليه بكل حرف عشر حسنات، كما قال ابن مسعود، رضي الله عنه.

وصدقاتنا التي هي ظلالنا ووقايتنا من النار ينبغي أن تبقى الأيدي مبسوطة لبذلها لكل ذي قربى ومسلم محتاج، لأن الحاجة لاستمرارها من ضروريات الحياة، فكم يوجد من المحتاجين المتطلعين لها، وهم فقراء الله وأخوة الإسلام والإنسانية، فلو لم نبسط الأيدي ببذلها في كل وقت لكان ذلك حرماناً لنا من إخلاف الله تعالى الذي وُعد به المنفقون، وحرماناً للسائل والمحروم اللذين وَجب لهما الحق، وذلك يعتبر ظلماً للنفس والغير.. فلتستمر هذه المعاني بعد رمضان، كما كانت فيه، فإن أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل.

«كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

 

تويتر