العصامية والاتكالية

العصامية الإسلامية الكريمة تستدعي أن يعتمد المرء على نفسه في أموره كلها، ولا يكون تُكأةً على الآخرين، كما قال الطغرائي (ت 513 هـ):

وإنما رجلُ الدنيا وواحدُها * من لا يُعولُ في الدنيا على رجلِ

ومثَلُ ذلك عبدالرحمن بن عوف، رضي الله عنه، الذي لُقِّب بتاجر الدنيا والآخرة، وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، فإنه يوم أن آخاه النبي، صلى الله عليه وسلم، بسعد بن الربيع، رضي الله عنه، في إطار المؤاخاة العامة بين المهاجرين ــ الغرباء ــ والأنصار أصحاب الدار والزرع والضرع، رضي الله عنهم أجمعين، فإن عبدالرحمن المهاجري، الذي جاء فقيراً ولا يعرف البلد، لم يتكل على تلك الأريحية العظيمة من سعد بن الربيع، الذي عرض عليه مشاطرته ماله، بل أنف من الاتكالية، وقال قولته المشهورة «دلوني على السوق»، فبارك الله بأثرها لمَّا علم صدق نيته بإعفاف نفسه وإكرام أخيه. حسناً! وماذا تريد يا عبدالرحمن من السوق، وليس لك رأس مال، ولا عندك خبرة بالتجارة في المدينة، ولا معرفة بأهلها وأحوال تجارها - وقد كان فطاحل التجار فيها اليهود، ولهم أشهر أسواقها، ولديهم أبرز صناعاتها؟ نعم هو لا يعرف ذلك كله، لكنه يعرف أن من جَدَّ وجد، ومن زرع حصد، يعرف أنه إن أخذ بالأسباب فلن يخيب، يعرف أن السبب الذي سيأخذ به ليس هو الرزق ذاته، وأن الرزاق سبحانه هو الذي سيكرمه بما يطمح إليه من إعفاف نفسه وعون إخوانه المهاجرين، فما لبث أن خرج إلى السوق فباع واشترى، فأصاب شيئاً من أقِط وسمن فربِحَ، وعف نفسه بالزواج، وجاء ليبشر النبي، عليه الصلاة والسلام، قائلاً: «إني تزوجت امرأة على وزن نواة من ذهب»، قال: «بارك الله لك، أولم ولو بشاة»، وأصبح يملك الذهب، من كسبه الميمون، وهي التجارة التي فيها تسعة أعشار الرزق، كما ورد، وذلك ما سرَّ النبي، صلى الله عليه وسلم، فبارك له زواجه، وأنعم بها مباركة!

وهكذا ظل يتاجر، حتى أصبح من كبار تجار المدينة، الذين أفادوا المجتمع المدني كثيراً والدعوة الإسلامية أكثر، ومثلُ عبدالرحمن كثير، فكل من عُرف واشتهر بالغنى والثراء والعطاء قديماً وحديثاً، هم عصاميون، بنوا أنفسهم من الأساس حتى علا بنيانهم وكثر خيرهم.

ومن هنا ندرك أهمية الأخذ بالأسباب، مع النية الصالحة التي يبارك الله تعالى أثرها، فيتحول بها الإنسان إلى أحسن أحواله وأفضلها، فإن الله تعالى عند ظن عبده به، فليظن به ما شاء، ولكن مع الأخذ بالأسباب الجادة، التي هي ضد العجز والتواكل، كما ورد عنه، صلى الله وسلم: «اعقلها وتوكل»، يعني خذ بالأسباب ثم توكل على الله تعالى، لأن الله تعالى أجرى قوانين الدنيا على الأخذ بالأسباب.

ويعجبني ما روي عن الشّعبي أنه مر بإبلٍ قد فشا فيها الجَرَب: فقال لصاحبها: أما تداوي إبلَك؟ فقال: إنّ لنا عجوزاً نتّكل على دُعائِها! فقال: «اجْعل مع دعائِها شيئاً من القَطِران».

هكذا كان السلف يفهمون التوكل، بأن نتائجه لا تظهر من دون عمل.

وهذا ما تريده القيادة الرشيدة من أبنائها؛ أن يأخذوا بأسباب الغنى والعزة، بالاعتماد على النفس والتوكل على الله تعالى.

فلابد من تغير نمط الاتكال على الوظيفة والراتب المنتظم، فإن هذا ــ إن وجد - لا يفي بحاجة الناس أجمعين، لأن الوظائف محدودة، وحاجات الناس غير متناهية، فالقطاع العام أو حتى الخاص لا يحتاج إلى كل مخرجات التعليم، فسوق العمل أقل حاجة من المعروض البشري، وهذا هو الحال في كل عصر ومِصر، فلابد أن يأخذ الناس بقانون عبدالرحمن بن عوف، رضي الله عنه «دلوني على السوق»، لاسيما والدولة، رعاها الله، تؤسس أجيالا مبتكرة صنَّاعة، وتنشئ عزائم وثابة، فلنستفد من هذا التوجه الكريم، وهذا التمكين العلمي الفائق؛ ليكون كل إنسان ابن نفسه، وكما قال النابغة:

نفس عصام سودت عِصاما

وعلمته الكر والإقداما

وصيرته بطلاً هماما

حتى علا وجاوز الأقواما

بارك الله في الجهود، وحقق لكل إنسان المقصود.

«كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

الأكثر مشاركة