سريالي

لعنة المعرفة «1»

أحمد المظلوم

«ما إن نعرف شيئاً ما، حتى نجد أنه من الصعب تصور ما قد تكون عليه الحال، إن كنا لا نعرفه. إن معرفتنا لعنتنا».

جملة جريئة صرح بها أستاذ السلوكيات الإدارية في جامعة استانفورد العريقة، شيب هيث، حيث توصل إلى هذه النتيجة استناداً إلى دراسة قامت بها عالمة النفس، إليزايبث نيوتن، عام 1990، في تجربة مسلية سمتها «المسجلون والمستمعون».

خلال الدراسة تم تقسيم مجموعة من المتطوعين إلى فئتين: «المسجلون» و«المستمعون»، وتلقى المسجلون قائمة من 25 أغنية معروفة عالمياً، ثم طلب من كل مسجل اختيار أغنية وعزف اللحن على مسمع شخص آخر من فريق المستمعين، عبر القرع على الطاولة، حيث يقتضي دور المستمع أن يحزر الأغنية.

بعد تمرير 120 أغنية بالطريقة نفسها، جاءت النتيجة صادمة، فلم يتمكن المستمعون من التعرف إلا إلى ما تعادل نسبته 2.5% من الأغاني فقط، أي ثلاث أغانٍ من أصل 120 أغنية! مع أن المسجلين توقعوا أن المستمعين سيستطيعون حزر 50% على الأقل من الأغاني.

عندما تم عرض نتائج هذه التجربة اندهش المسجلون من الصعوبة البالغة التي واجهها المستمعون في محاولة التعرف إلى الأغاني التي جرى عزفها قرعاً على الطاولة، متسائلين كيف يمكن ألا تتعرف إلى أغنية «سنة حلوة يا جميل»! أليست الأغنية واضحة كالشمس؟ فالمسجلون هم فئة من الناس تمتلك المعرفة حول أمر ما، ويجدون صعوبة في إيصال الفكرة أو المعلومة بطريقة مبسطة تخلو من أي تعقيد، على اعتقاد راسخ منهم أن الطرف الآخر (المستمع) على دراية و إحاطة بهذه المعرفة على أحسن وجه.

جميعنا قد يلعب دور المسجل في يوم، ويكون المستمع في يوم آخر، حيث تصادفنا هذه المواقف في جميع مشاهد الحياة اليومية.

حسناً كيف يمكن تعميم تجربة المسجلين والمستمعين على مختلف القطاعات؟ لنأخذ على سبيل المثال مهمة أساسية تقع على عاتق جميع المؤسسات الحكومية أوالخاصة، وهي صياغة خطة استراتيجية ناجحة للمؤسسة لتحقيق أهدافها في السنوات المقبلة، فهي بلاشك خطوة مهمة جداً، وكذلك غير مفهومة جداً.

لأن ما يحدث غالباً أن الفريق المكلف إعداد الخطة الاستراتيجية.. ماذا قلت.. استراتيجية! توقف هنا للحظة، تعود جذور هذه الكلمة العتيقة إلى اللغة الإغريقية، ومشتقة من كلمة «سراتيجوس» التي تعني قائد حرب، لكن كما تعلمون أصبح المصطلح مستهلكاً جداً ومنفراً أحياناً وقديماً كالأرض.. أتساءل أحياناً لماذا لا تتم الاستعاضة عن كلمة استراتيجية بكلمة «حلم» أو «إدارة الحلم»؟! تأملها يا سيدي، من منا ليس لديه حلم ؟ فالحلم للأفراد وكذلك للمؤسسات، كل مؤسسة لديها حلم تريد أن تصبو إليه، هي كلمة واحدة ستتغير، لكن أثرها بالغ من الناحية السيكولوجية في الموظف، تخيل وقارن ما الأجمل؟ هل أن تسعى لتحقيق خطة مؤسستك الاستراتيجية؟ أم حلم مؤسستك؟! المشاركة في تحقيق حلم هي بحد ذاتها محفز كبير ومصدر فخر للموظف.

قام صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، حفظه الله، في عام 2017 بتغيير مسمى «ذوي الاحتياجات الخاصة» إلى «أصحاب الهمم»! كلمتان فقط لكنهما مفعمتان بالأمل والمستقبل المشرق لهذه الفئة، حسناً لنعد الآن إلى المسألة الأساسية..

عندما يأتي دور الفريق لصياغة الخطة الاستراتيجية أو «حلم المؤسسة»، كما أود أن أطلق عليها، تحل لعنة المعرفة، فترى الفريق بعد أن استوعب توجه القائد الذي أوصله اليهم بكلمات معدودة بسيطة، يقوم الفريق بعد ذلك بالاستعانة بجميع أدوات التفخيم والتعقيد لصياغة الخطة بألفاظ مشفرة لا يفهمها إلا ثلة من الناس، فتغدو الخطة الاستراتيجية عبارة عن كلمات مبعثرة ملقاة على تصميم جميل، خالية من أي وضوح أو معنى، ولا تعدو أن تكون في هذه الحالة أكثر من تبجح لغوي، وهذا خطأ فادح! فالخطة الاستراتيجية يجب أن تكون مفهومة وواضحة لدى جميع الموظفين بمختلف مستوياتهم العقلية، وتشير آخر الدراسات التي شملت أكثر من 300 شركة كبرى حول العالم، إلى أن 86% من الموظفين لا يفهمون الاستراتيجية! لماذا؟ بالطبع هناك العديد من الأسباب المؤدية إلى هذا الخلل، من أهمها عدم اختيار لغة سهلة لإبرازها.

وهنا بعد أن أوضحنا العلة نأتي إلى أحد الحلول للتغلب على هذه اللعنة، لكنني سأعرض هذا الحل لهذه المسألة الشائكة في مقال الأسبوع المقبل.

Ahmed_almadloum

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر