سريالي

يونو والنار الزرقاء

أحمد المظلوم

في رحلتنا الأخيرة إلى إندونيسيا المذهلة، قررنا الذهاب إلى بركان كوا لجين، لمشاهدة ظاهرة النار الزرقاء التي يتوافد إليها مئات الألوف من الزوار سنوياً، بمرافقة هذا الرجل الذي بدت علامات الشيخوخة تظهر على ملامح وجهه، فقد كان يونو يبلغ من العمر 29 عاماً فقط، لكن هموم الدنيا وظروف المعيشة جعلته كهلاً!

كان يونو دائم الابتسام خلوقاً محباً لعمله، وحريصاً للغاية على سلامتنا، فالرحلة محفوفة بالمخاطر، وكان حصولنا على قناع يحمينا من غاز الكبريت السام من أساسيات الرحلة، كما يجب علينا أن نحمل قدراً كافياً من الماء نرتوي به عند العطش، فالمسير طويل وشاق.

مضينا ليلاً، مشياً على الأقدام في طريق جبلي وعر لمدة ساعة ونصف، صعوداً الى فوهة البركان، ومن ثم نزولاً لنصف ساعة الى مصدر انبعاث النار الزرقاء في القاع، وذلك بعد وقفات عديدة نأخذ فيها قسطاً من الراحة بين الفينة والأخرى، كلما شعرنا بمداهمة التعب لنا، وعند وصولنا الى القاع أصابنا الذهول من روعة المنظر، فالنار كانت زرقاء متوهجة كأنها بحر مضطرب لم أرَ مثل ذلك في حياتي، ولشدة الحماس أردنا الاقتراب أكثر من النار لالتقاط بعض الصور، فمنعنا يونو عن ذلك حرصاً على سلامتنا، وبعد إلحاح شديد وافق يونو بأن نقترب، لكن لخمس دقائق فقط، فالمكان مشبع بالغازات السامة!

بعد محاولاتنا اليائسة لالتقاط أفضل صورة علت صرخات يونو للابتعاد عن النار التي بدأت تشكل خطراً علينا.. فماذا فعلنا؟ قمنا بتجاهله، ولم نحرك ساكناً، كان أكبر همّنا الصورة وكان أكبر همّه سلامتنا! لم تمض دقائق معدودة حتى تصاعدت الأدخنة من النار وتكونت سحابة ضخمة من غاز الكبريت ملأت الفوهة بياضاً وسُمّية، وفي هذا المشهد السريالي المخيف أصبحت كالأعمى لا أرى شيئاً، ولم يحل القناع دون استنشاقي للغاز، هنا بدأت نبضات قلبي بالتزايد كما واجهت صعوبة بالغة في التنفس، ومتعثراً بهذا الحجر ومتمسكاً بذاك، هارباً في طريق لا أعرفها، أحاول الوصول إلى مصدر ذلك الصوت الذي ظل يتردد في مسامعي «اخرج من هنا»، كان هذا يونو يقف وسط هذه السحابة القاتلة ينتظر قدومنا وعند وصولي إليه كانت المفاجأة!

يونو لم يكن يرتدِ قناعاً ليحميه، ولا يحمل ماء ليرتوي به، لأنه لم يكن بمقدوره توفير المال الكافي لشراء هذه المستلزمات الأساسية لعمله، تملَّكني الفزع عندما رأيته يسعل بشدة، فنزعت قناعي فوراً وأعطيته إياه فرفض ذلك قطعاً، حتى خروجنا من هذا المأزق.

في هذه اللحظة تساءلت: لماذا يُعرّض حياته للخطر لأجلنا؟ لماذا يقع ضحية فضولنا اللامتناهي ومساعينا لالتقاط أفضل صورة؟ هل لأنه يؤدي عمله بأمانة؟ أم أن إنسانيته حملته على ذلك.

في الحقيقة لم أستطع الاجابة عن هذا السؤال، ولكن ما أعلمه أني تأثرت بالموقف كثيراً، خصوصاً عندما علمت أن يونو كان يتقاضى نظير هذا الشقاء 30 درهماً فقط! نقضي حياتنا ونحن نتذمر من عملنا وعدم كفاية الراتب، ونعرب عن عدم رضانا عن تعليمنا وسياراتنا ومساكننا، كل ذلك لأننا لم تمسسنا أي خسارة في تلك الأشياء التي لن نقدرها إلا بعد زوالها، «فالصحة تاج على رؤوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى».. تعلمت هذا من يونو، رغم أنّ يونو لم يقل شيئاً من هذا.

Ahmed_almadloum

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر