تحدي القراءة

تعارف الناس على أن التحدي يكون في ساحات النزال والمغالبة الجسدية، من مصارعات وبطولات ورياضة بدنية وسباق ورماية وفروسية، وغير ذلك مما يكون الرهان فيه على إثبات الذات وقهر الآخر، وهذا أمر حسن لتحقيق معنى التنافس وإثبات الكفاءات النافعة، فقد ثبت بعض ذلك في السنّة المطهّرة كتشجيعه صلى الله عليه وسلم على الرماية، والجري، والمصارعة الشريفة غير الضرب المؤذي، والفروسية وجعل ميادين خاصة لسباق الخيل في عاصمة الإسلام الأولى – المدينة المنورة – وقِيسَ عليها غيرها مما يحقق معنىً مطلوباً.

أما أن يكون التحدي في القراءة، فهذا شيءٌ لم يُسبق إلى مثله، فهو تحدٍّ على شرف مروم، ومقصد كلي عظيم، ونُبل في النفس والروح، وهو فوق ذلك طلب للعلم الذي هو أشرف المقاصد البشرية، وأعظم المطالب الشرعية.

حقاً إنه تحدٍّ غير مسبوق؛ فقد كان الناس يرون أن القراءة مطلب شخصي، فيسعى إليها ذوو الهمم العالية، ويتقاعس عنها غيرهم؛ لأن الحياة كانت بسيطة، فكان بعضهم يكتفي بالقليل من متاع الدنيا لعدم وجود مطامع باهرة يتنافس الناس فيها، وكان يصدق على الكثير منهم قول القائل مُزهِّداً:

خبزٌ وماء وظلُّ * هو النعيم الأجلُّ

كفرتَ نعمة ربي * إن قلتَ هذا أقلُّ

أما اليوم، فإن الوضع مختلف تماماً، فإن الناس اليوم في عصر العلم والانفتاح واكتشاف أسرار الكون وفتح خزائنه، والتسابق إلى حياة ذات معنى، فمن لم يعش زمانه هذا فإن باطن الأرض خيرٌ له من ظاهرها؛ لكونه سيعيش لا لدينه فاهماً، ولا لدنياه عاملاً؛ فإن الدين دعا إلى العلم ونفَّر من الجهل وقبَّحه، والدنيا لا تدرك إلا بمُسخِّرات الحياة فيها، حتى يعيشها الإنسان بكرامته، وذلك لا يكون مع أميّة طافحة، وتقاعس ذميم.

وقد سخّر الله تعالى الكون لعباده كما قال سبحانه:

﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً﴾، أي مكَّنكم من الاستفادة من هذا الكون الفسيح، أرضِه وسمائه وهوائه وبرّه وبحره، وسِرُّ هذا التسخير هو العلوم والمعارف التي هي بمقدور كل إنسان، إن هو طلبها، ومفتاح هذا السر هو الخروج من فلك الأمِّيَّة المقيتة بالقراءة النافعة لكل ما هو مفيد، ومثل هذا بيِّن لا يخفى على العموم، فضلاً عن الخصوص، لكن الناس بحاجة إلى من يشحذ هممهم إلى ما هو نافع لهم، فكان هذا التحدي الموفق الذي هو في ظاهره تحدٍّ، وفي باطنه منحة كبيرة، وهبة وفيرة، ينالها المرء من أيسر الأبواب.

إن «تحدي القراءة» في الحقيقة هو مشروع حضاري رائع قدمه صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد - حفظه الله ورعاه - لأمته العربية، فاجتاز به حدود الجغرافيا المتقطعة، إلى ساحة الفضاء المتباعد الأطراف، ليدخل إلى الجنس العربي أينما وحيثما حل ونزل، فعلى الإنسان العربي الذي ابتعد كثيراً عن ركب المعرفة وآفاقها الواسعة، لفقده من يأخذ بيده فيرشده إلى ما ينفعه، عليه أن ينتهز هذه الفرصة المتاحة ويقبل هذا التحدي المبارك، فها هو اليوم قد وجد هذا الفذ الماهر الذي امتلأت جوانحُه حباً لبني جنسه، وعزَّ عليه بقاء أمته في حلقة مفرغة من التخلف، فأنشأ هذا المشروع - وغيره كثير - وسخّر لكل ذلك الإمكانات المحفِّزة، فمن لم يشارك فيه فإنه يكون قد أقام الحجة على نفسه أنه لا يطمح إلى المعالي، ولا يتوق للفضائل.

لا جرم أن يكون هذا المشروع مشروعاً ناهضاً نافعاً ينبع من جوهر الإسلام؛ فإن الله تعالى خاطب هذه الأمة في أول خطاب لها بأن تقرأ، فلم يخاطبها بالإيمان ولا بالعبادة ولا بالتقوى ولا بغير ذلك؛ لأن كل هذه المعاني تحتاج إلى معرفة، ومفتاح المعرفة القراءة، فكان خطاب هداية لمن أراد الهداية، وقد عرف أماجد الأمة سابقاً هذا المعنى فاعتنوا بالقراءة حتى علموا وأنشأوا المعارف المتعددة التي عمّ نفعها البشرية، والواجب على أجيال اليوم أن تعرف هذا المعنى الرباني، فتقصده بجد واجتهاد حتى تحقق المراد. وبالله التوفيق.

«كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

الأكثر مشاركة