إنها الحياة يا سادة

يؤسفني الاعتراف بأن جلّ النماذج التي شاهدتها بحياتي كانت نماذج «استسلامية» منكفئة لا تحب الحياة كثيراً، أو ربما تحبّ الحياة لكنّها لا تستطيع أن تجاريها، فتعتزلها باكراً تماماً كما يعتزل لاعبو أنديتنا الملاعب.

وعيت مثلاً على جدّتي ممدّدة على فرشتين يغطّيها لحاف ثقيل، وحولها قوم صامتون لا يضحكون ولا يحاولون رفع المعنوية المتدنية، وبالتالي جدتي لا تقوم ولا تنهض إلا لشرب الماء أو تناول إحدى الوجبات ثم تعود للتمدّد، لم تكن تشكو من مرض عضال أو شيء خطير؛ إنما هي الشيخوخة الروتينية التي تصيب كل من عمّر في الخلق، كانت كثيرة الحديث عن الموت، قليلة الكلام عن الحياة أو السعادة أو صحة الأولاد، بقيت على هذه الحال سنوات طوالاً إلى أن توفّاها الله..

«الاستسلامية» لم تتوقف، ظهر بعد جدّتي خليفات كثيرات «بالاستسلامية»، في الحي وبين الأقارب وفي المعارف، شعرت بأن استنساخاً أو تقليداً تتّبعه كل من قطعت الستين من عمرها، حتى لو كانت تتمتع بصحة جيدة ومعنويات مرتفعة، كلما دخلت سيدة في العقد السابع من عمرها، تمددت على فرشتين وتغطّت بلحاف ثقيل، وأحاطت نفسها بقوم صامتين، لا تقوم ولا تنهض إلا لشرب الماء أو تناول الدواء، أو التثاقل في تعاطي الوجبات الخفيفة ثم تعود للتمدد، والحديث المتكرر عن الموت، حتى في القصص تسللت هذه الصورة النمطية إلى مسلسلات الكرتون: ألم نشاهد جدّة ليلى في «ليلى والذئب» كيف كانت طريحة الفراش تغطّي قفصها الصدري بلحاف ثقيل رغم أنها لم تكن تعاني لا من سكّري ولا من ضغط ولا من هبوط! لكثرة ما شاهدت نماذج توحي بهذه العاقبة، صارت تستهويني مثلاً أشكال «الووكرات والعكّازات» أكثر من الموبايلات، كلما شاهدت ووكر أنيقاً ولامعاً قلت «بينفع للكبرة»، وهناك فرشتا صوف أحتفظ بهما فوق الخزانة وأرفض التصرف بهما ويحيّر بقاؤهما زوجتي، وأنا أخجل أن أصارحها أنه «عرش جدتي» الذي سأستلمه بعد أقل من عقدين من الزمان. تذكّرت جدّتي والجدّات الطيبات الخائفات من الحياة، بعد أن قرأت عن عجوز يابانية تدعى ماساكو، بلغت من العمر 82، صممت أخيراً لعبة إلكترونية على الهاتف للمسنين، اختراع هذه اللعبة جاء بجهد ذاتي ومن دون معلّم، حبّ الحياة والاستمرار في العطاء هما دافعها الأول.. إنها الحياة يا سادة.

ahmedalzoubi@hotmail.com

 لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

الأكثر مشاركة