أبواب

الكتابة في لحظة صدق

محمد حسن المرزوقي

أن يسرد الكاتب سيرته الذاتية، يعني بطريقة أو بأخرى، أن يقف أمام مرآةٍ مصقولة، ويخلع ثيابه قطعةً قطعة، ليكتشف عندما يصبح عارياً تماماً أن المرآة التي ظنّها مرآةً، لم تكن سوى نافذة يتلصص عليه من خلالها أرتالٌ من الأصدقاء، والأعداء، وجامعي الفضائح.

أن يغامر الكاتب برواية سيرته الذاتية، يعني بطريقةٍ ما، أن يهمس في أذن صديق بأدقّ أسراره وأشدّها خصوصية وحميمية، ليكتشف مع آخر سرٍ يبوح به أنّ أذن الصديق لم تكن سوى مكبر صوت يوزع أسراره على الغرباء كمنشوراتٍ دعائية.

كتابة السيرة الذاتية أشد المغامرات الأدبية حرجاً وصعوبة ولا يغامر بارتكابها إلا كاتب متهور أو كاتب لم يعد لديه ما يخسره.. أو يكسبه!

أن يفكّر الكاتب بنشر سيرته الذاتيّة، يعني أن يكشف سرّاً، أن يهتك ستراً، وأن يهدم سوراً كان قد شيّده بين الآخرين وبينه.

لهذا كله كانت كتابة السيرة الذاتية أشد المغامرات الأدبية حرجاً وصعوبة، ولا يغامر بارتكابها إلا كاتب متهور أو كاتب لم يعد لديه ما يخسره.. أو يكسبه!

يقول الأديب والفيلسوف الأميركي «رالف والدو إمرسون» بأنّ الروايات ستفسح المجال شيئاً فشيئاً للمذكّرات أو السير الذاتيّة لتتسيّد الأجناس الأدبيّة، إذا عرف الكاتب كيف ينتقي من بين ما يسمّيه تجاربه الشخصيّة ليدوّنها، وكيف يسرد الحقيقة بصدق، لكن فات «إمرسون» أن الرواية إحدى أكثر الأجناس الأدبيّة مماطلة وخداعاً وأنانيّة، وهي لن ترضى بأن تتنازل عن عرشها الذي تحتلّه لأي جنس آخر. ومثلما استعارت الرواية من الشعر بعض أدواته وتقنياته لتنتج ما يسمّى بالرواية الشعرية لتزيحه من الصّدارة، تلبّست كذلك بلبوس السيرة الذاتية، لتلد ما يسمّى «السّيرة الروائية» أو «الرواية السيرذاتيّة» التي تنسف الحدود بين الرواية والسيرة الذاتية، بحيث يمكن تناولها كروايةً وسيرة ذاتية في آن واحد.

إذا كان الخيال، وهي كلمة أخرى مرادفة للكذب تمنح الروايات بريقها وقيمتها، فإن الرّوايات السّيرذاتية تستمدّ جاذبيتها وقوّتها من الصدق، فكلما كان الكاتب أكثر صدقاً في تدوين سيرته الذاتية، كان أكثر إقناعاً للقارئ. هذا النوع من الصّدق يمكن أن تكون إحدى تبعاته عدم رضا المتلقّي وامتعاضه من الكاتب وما يكتب، لكن يبقى لهذا الصّدق حلاوته وطعمه الغريب، وهو أمرٌ لم نعتده نحن القرّاء من كتّابنا العرب الذين تعوّدوا تغليف الحقائق بأوراق «سلوفان» زاهية ومزركشة، لتلائم المكانة المرموقة للكاتب و«برستيجه»، وحتّى لا يسقط من أعين قرّائه.

ربما تكون رواية «الخبز الحافي» للرّوائي محمّد شكري أصدق سيرة روائيّة مرّت على عالم الأدب العربي في تاريخنا، وهي جزء من سيرته الذاتيّة، عبّأها الكاتب بأشياء شديدة الخصوصية، دون أن يلجأ لوضع «المكياج» على كلماته لكي لا يؤذي أعين القرّاء، جعلت منه وليمة شهية للكارهين، والحاقدين، والحاسدين.

لعل أكثر ما يجذب القارئ في هذه السيرة الروائية هو الصدق والعفوية، إذ تشعر وأنت تقرأ الكتاب بأن المؤلف يكتب من أعماق قلبه، ويتحدّث بلا حرجٍ عن عائلته، أصدقائه المقربين، علاقاته العاطفية، مغامراته الجنسية، حماقاته.. إلخ مما يوقعك كقارئٍ عربي، غير معتاد على هذه الجرعة العالية من الصدق، في الكثير من الحرج.

وهي سيرة روائية يصحّ أن نصفها كما وصف النّاقد الأميركي عزرا باوند كتاب «مدار السّرطان» للكاتب هنري ميللر بأنّه «كتابٌ قذر ولكن يستحقّ القراءة».

al-marzooqi@hotmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

تويتر