أبيض وأبيض..
كلما شاهدت الشاشات المسطحة وهي تحتل نصف واجهة البيت، والألوان الطبيعية تلمع في عيون الحاضرين، وكلما انتبهت لأضوية «الرسيفر» و«كرت» الاشتراك الذي يطل من الداخل كرأس سلحفاة، وكلما همّ اللاعب المدريدي بركل الكرة ركضت نحو «طربيزات» الغرفة لشدة اندماجي مع المباراة، ولوضوح الصورة ونقائها وكبر حجم اللاعب.. تذكرت تلفزيوننا القديم الذي يشبه أحدب نوتردام بمؤخرة بارزة، وشاشة محدّبة، وعلى يمين الشاشة قائمة أزرار تشبه أزرار مفاعل «بوشهر» الإيراني.
كان التلفزيون الأول الذي نقتنيه في البيت، يقال عنه أبيض وأسود.. لكنه لم يكن كريماً حتى في هذين اللونين، فلا «الأسود أسود» ولا «الأبيض أبيض» بالفعل.. ومع ذلك كنا نستمتع ونشجع ونتابع المباريات. بالمناسبة لم تكن تعنينا كثيراً أسماء الأندية؛ لذلك كنا نقوم بالتشجيع على «اللون»، نتقاسم الفرق في ما بيننا بالتراضي: أنت مع الأسود وأنا مع الأبيض، ونظل نتحمس وننزل رؤوسنا لنلحق بالكرة التي غطست في سقف الشاشة لرداءة التصوير، إلى أن نراها في أحضان الحارس. وربما يعتقد البعض أن مهمة اختيار الفريق على لون الـ«تي شيرت» سهلة في محدودية ألوان التلفاز القديم.. إما أبيض وإما أسود، لكن في كثير من الأحيان كان يلتقي فريق أصفر بفريق أبيض.. كيف نحلها؟ سيما أنه في تصنيف تلفزيوننا الأحدب القديم «الكل أبيض» إن شاء الله.. لذا كلما سجل أحد الفريقين هدفاً في مرمى الخصم صاح الجميع فرحاً؛ فكل واحد يدعي أن فريقه المنتصر في ظل توحّد اللون، وعند تبادل تجاه اللعب في الشوط الثاني يصبح الأمر أكثر تعقيداً علينا، بحيث يتشابه علينا التعادل مع تعزيز الفوز.
| • كنا نشجع فريقين يحملان اللون نفسه، ونفرح لانتصار أي منهما من دون أن نميز الغالب من المغلوب، فالخصوم تشابهت علينا؛ ها نحن نفعل الشيء نفسه في السياسة، لا نميز اللون، ولا الغالب أو المغلوب؛ فالخصوم تشابهت علينا أيضاً! مع فارق وحيد، في تلفزيوننا الأحدب اللون الأبيض كان سيد المشهد..اليوم في زمننا الأحدب.. اللون الأحمر هو سيد المشهد. |
الأدهى من ذلك كله أن المعلقين الرياضيين كانوا في حال عدم معرفة أسماء اللاعبين يؤلفونها من عندهم، فتجده يكرر الاسم نفسه على أكثر من رقم: «جون» يمررها لـ«مايكل» ويسددها «جون» لكن مايكل يصد الكرة ببسالة ولا تعرف وقتها هل «مايكل» رأس حربة أم حارس مرمى؟ وللأمانة زُهدُنا في التعرف على أسماء اللاعبين كان يجعلنا لا ندقق كثيراً على مهنية المعلّق.
ما علينا؛ المهم ومن ذكريات بث المباريات في الزمن القديم على عهد التلفزيون الأحدب، أنه من الطبيعي جداً أثناء تنفيذ ركلة جزاء أن يقطع البث، وتطلع المذيعة المحلية تعلن عن وجود مريضة بحاجة إلى دم «o-» يرجى من المتبرعين التوجه للمستشفى في أقرب وقت.. ويعاد هذا النداء تباعاً ثلاث مرات، حيث لم يكن الشريط الإخباري أو الشريط العاجل مكتشفاً بعد في علم البث.
يااه.. كم كنا ننزعج من قطع المباراة لتقديم نداء «الأو سالب» أو موجز لأهم الأنباء، لأننا كنا نشعر وقتها أننا أضعنا متعة التفرج على مواجهة حامية الوطيس، أعتقد أن ذلك الانزعاج كان من الممكن أن يتلاشى، وربما ينقلب إلى قهقهات عالية لو كنا نعرف أن القناة المحلية ما غيرها كانت تبث هذه المباراة مسجلة بعد ثلاث سنوات من إقامتها، وأنها لم تكن ولن تكون مباشرة في يوم من الأيام، ضمن إمكانات القناة المتواضعة، وأن بث مثل هذه المباريات يأتي فقط من باب «املأ الفراغ».
التاريخ يعيد نفسه؛ كنا نشجع فريقين يحملان اللون نفسه ونفرح لانتصار أي منهما من دون أن نميز الغالب من المغلوب، فالخصوم تشابهت علينا؛ ها نحن نفعل الشيء نفسه في السياسة، لا نميز اللون ولا الغالب أو المغلوب، فالخصوم تشابهت علينا أيضاً! مع فارق وحيد، في تلفزيوننا الأحدب اللون الأبيض كان سيد المشهد..اليوم في زمننا الأحدب.. اللون الأحمر هو سيد المشهد.
ahmedalzoubi@hotmail.com
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .