أبواب

كائنات ورقيّة

محمد حسن المرزوقي

يصف الكاتب الإنجليزي «هارولد بنتر»، الحاصل على جائزة نوبل للآداب عام 2005، اللحظة التي ترى فيها الشخصيات المسرحية النور بـ«اللحظة العجيبة»، إذ إن الكاتب، بحسب وصفه، لا يلبث أن يدرك بعد أن يخلق تلك الشخصيات التي لم يكن لها وجود، بأنّه يحمل بين ساعديه كائنات من لحمٍ ودمّ، وتملك إرادة ورغبات مستقلة عن أهواء الكاتب.

في السياق نفسه، تقول الأديبة السورية غادة السمان: «ليس صحيحاً أن الكاتب يخلق أبطال القصة. الصحيح هو أن أبطال قصته يستعبدونه. إنهم في البداية ينبتون في داخله، لكنهم ينفصلون عنه بسرعة وتبدأ حريتهم تأكل حريته».

• تحوّل الكثير من الشخصيات الروائية إلى ظواهر اجتماعية، كشخصية «سي السيد»، على سبيل المثال، التي ابتكرها نجيب محفوظ في ثلاثيته، وأصبحت في ما بعد رمزاً للرجل الشرقي المتسلط.

أما الروائي البرتغالي جوزيه ساراماغو، فيذهب أبعد من ذلك، عندما ينصح الكاتب بوضع سلاسل حول أعناق الشخصيات الروائية، ليتحكم في محاولات جموحها وجنوحها عن إرادته.

فهذه الكائنات الورقيّة، التي يظنها الروائي دُمى، يحركها بخيوطه كيفما ووقتما شاء، ستقوم في غفلة منه بقطع الخيوط التي تربطها به، وتتحرّر من سلطته!

هنالك كثير من الشخصيات، التي ابتكرها الأدباء، استطاعت مع مرور الوقت التحرر من سلطة الورق، وتحوّلت إلى كائنات حيّة تمرّدت على مبتكريها، بل وتجاوزت في كثير من الأحيان شهرتهم.

شخصية «زوربا اليوناني»، التي ابتكرها الكاتب نيكوس كازانتزاكيس، وشخصية «دون كيخوته» محارب الطواحين، التي ابتكرها الكاتب ميغيل ثرفانتس، أصبحتا أكثر شهرة وخلوداً في الذاكرة الإنسانية من شخصيات مبتكريهما (كم عدد الذين يعرفون دون كيخوته وزوربا، مقابل عدد الذين يعرفون ثربانتس وكازانتزاكيس؟).

أمّا شخصية «بتشورين»، بطل رواية «بطل من هذا الزمان»، للروسي ميخائيل ليرمنتوف، فقد حققت لنفسها شهرة نوعية، وجرّت في الوقت نفسه، على مبتكرها الكثير من الويلات واللعنات!

عندما صدرت هذه الرواية في روسيا عام 1840، أحدثت ردة فعل عنيفة، ويقال إن آباء البنات حاولوا ضرب طالبي أيدي بناتهم، المشكوك في أمرهم بالسياط. وقد هوجم ليرمنتوف، لأنه أكّد أن «بتشورين»، الذي يتسلى في الرواية بالعبث بقلوب نساء المجتمع الفاتنات، ليس سوى صورة كربونية، لا عن نفسه فقط، بل عن جيل بأكمله

غير أن قصة الروائية التركية «أليف شفق»، مؤلفة رواية «أربعون قاعدة للعشق»، أغرب من الخيال. فقد دخلت «شفقة» التاريخ، أو بتعبيرٍ أدق دفعتها بطلة روايتها «لقيطة إسطنبول» من كتفيها دفعاً إلى التاريخ، عندما مثلت أمام المحكمة في إسطنبول بتهمة إهانة الهوية التركية، بعدما سمحت لبطلة روايتها بالحديث عن المحرمات: أي الحديث عن المجزرة التي ارتكبها الأتراك بحق الشعب الأرمني، التي تعدّ إثارتها جريمة يعاقب عليها القانون التركي.

في المقابل، تحوّل الكثير من الشخصيات الروائية إلى ظواهر اجتماعية، كشخصية «سي السيد»، على سبيل المثال، التي ابتكرها نجيب محفوظ في ثلاثيته، وأصبحت في ما بعد رمزاً للرجل الشرقي المتسلط. وشخصية «دون جوان»، التي استلهمها الكاتب الفرنسي «موليير» من الفولوكلور، وأصبحت صفة تُطلق، إلى يومنا هذا، على الرجل «النسونجي» أو العابث!

وبشكل مشابه، لم يدر في خلد الروائي الروسي «ڤلاديمير نابوكوڤ» عندما نشر روايته «لوليتا»، التي عالجت بشكل صادم مسألة التحرّش بالأطفال، قبل نحو 50 عاماً، بأن «لوليتا»، بطلة روايته المراهقة، ستهرب منه ومن الرواية، وتتحوّل إلى كلمة في القاموس الإنجليزي تعني الفتاة اللعوب!

al-marzooqi@hotmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

تويتر