التواضع.. سلوك وأسوة

«فلان شخص متكبر»، تهمة دائماً نسمعها من البعض حول آخرين، مطلقين أحكامهم وفق معايير غريبة ومنطق مريض، فإذا سألت أحدهم: لماذا تصف فلان بالمتكبر؟ سيجيبك ضمن نظرة ضيقة حاسدة كالتالي: «يعمل في الجهة الفلانية ولا يساعد أحداً»، أو «لديه سيارة من نوع كذا»، أو «يسكن في المنطقة الفلانية»، أو «أصدقاؤه هم فلان وفلان»!

منطق مريض فعلاً، يخلط بين الأمور، وينظر إلى الشكل والمظاهر جاهلاً بالمعايير الحقيقية التي تفرق بين التكبر والتواضع، وإذا حاولت أنت أن تتأكد من مدى صدقه في أن ذلك الآخر متكبر، ستفاجأ بأن ذلك الشخص الذي نعته صاحبنا بالمتكبر يعتلي في الحقيقة قمة التواضع والاحترام للناس في تعامله وفي سلوكه، ولم ينل تلك التهمة إلا لأنه قام بإظهار النعمة التي وهبها الله له على مظهره، أو لأنه كان ملتزماً بقوانين عمله فلم يحاول تقديم أحد على أحد، ولم يتجاوز النظم المعمول بها.

النظرة القاصرة والمعايير الغريبة للبعض، تتسببان في هضم المجتمع لحق أفراده المتواضعين، فتجد أحدهم وقد وُضع ظلماً من قبل آخرين في «دائرة المتكبرين» وصدقهم في ذلك أغلب المجتمع، وفي الواقع هم المتكبرون لأنهم لم يكلفوا أنفسهم بالاقتراب من هذا الشخص ومعرفة معدنه الحقيقي، واكتفوا بالأقاويل وبالمظاهر والظنون.

ولكي نعطي كل ذي حق حقه في تقديرنا لصفاته الشخصية، وكي نسهم في نشر فضيلة التواضع بين أفراد المجتمع، لا بد أن نفهم الأخلاق كما وصفتها شريعتنا الغراء في القرآن الكريم والسنة النبوية.

فالقرآن الكريم عندما وصف التكبر والتواضع من خلال حديث لقمان الحكيم لابنه لم يذكر أي شيء يتعلق بالمظهر أو الشكل، وإنما ذكر السلوك والتصرفات {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّه لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ}.

هذا بالإضافة إلى الآيات التي أنزلها الله سبحانه في قرآنه الكريم حول سلوك التعامل مع النبي، صلى الله عليه وسلم، فلم يذكر سبحانه أي أمر يتعلق بالمظهر الخارجي للشخص، وإنما ركز على السلوكيات التي يجب أن يتعامل بها الناس مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أو بين بعضهم بعضاً.

فضيلة التواضع هي التي انتهجها كل الرسل، عليهم السلام، في مهامهم كسلوك عند دعوتهم الناس إلى الحق، لكن كانت مظاهرهم الخارجية التي تبرز فقرهم أو غناهم تختلف من أحدهم للآخر.

التواضع مفتاح لغنى النفس وراحتها واطمئنانها، وهو المفتاح الحقيقي لكسب القلوب خصوصاً تلك التي تميز بين الحق والباطل، وفي واقعنا المحلي لنا أسوة حسنة في شخصية والدنا الشيخ زايد، رحمه الله، فقد كان أحد أسباب نجاحه في تحقيق الاتحاد تواضعه الذي جعله، رحمه الله، يقطع مسافات ليلتقي بالحكام وكبار القبائل في مناطقهم ليقنعهم بفكرة الاتحاد، فهل كان الناس سيقتنعون لولا تصرفه المتواضع رحمه الله؟ لقد كانت النتيجة أكثر من الاقتناع فقد وضعوا فيه ثقتهم وبايعوه رئيساً لدولة الاتحاد، واستمر، رحمه الله، على سلوكه المتواضع مع الجميع ومنهجه الذي أثمر عن واقع حضاري أبهر العالم.

ولقادتنا اليوم صور ومواقف عديدة تمثل استمرار نهج التواضع، فليس مستغرباً مثلاً أن تدخل مطعماً يقصده العامة في أحد أنحاء إمارة أبوظبي فترى صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان جالساً فيه بمعية مسؤولين آخرين على طاولة قرب طاولتك ومثلها تماماً، غير هذا فقد تعود الجميع على رؤية سموه في مجالس المواطنين، بل وفي زيارة خاصة للأسر من عامة الشعب، والجميع لن ينسى صورة سموه وهو جالس على رصيف شارع بقرب طفلة تنتظر والدها.

سموه لم يتغير، فهو ابن زايد، وهو ولي عهد أبوظبي، وهو ولله الحمد يملك من الخير الكثير، وجميع تلك الأمور لم تغير من تواضعه، لأن سلوكه وتصرفاته العفوية مع الجميع أبرزا معدنه وأكدا لنا أن فضيلة التواضع ترفع الأشخاص، بل وترفع الدول والشعوب، وهي لا تقاس بالمظهر أو بالمنصب أو المال وإنما بالتصرفات والسلوك.

وأخيراً

يتساءل الكثير من المديرين والمسؤولين كيف أكسب الموظفين لدي، وربما يشتكي من عدم فهمه لهم أو سوء العلاقة بينه وبينهم.إجابتي له انزل للميدان بينهم وضع أمامك قول الله تعالى: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}، وتذكر أسوتنا في زماننا هذا من شيوخنا الكرام، فتواضع مثل هؤلاء تكسب محبة وإخلاص موظفيك، بل ومحيطك كله.

saeed@uae.net

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

الأكثر مشاركة