أبواب

الشحرورة

محمد حسن المرزوقي

سافرت في رحلة عمل إلى عمّان، وهي فرصة أستغلها عادةً في الانقطاع عن العالم الافتراضي، والتسكّع في العالم الواقعي الذي أفتقده كثيراً، وعدت قبل أيام لأكتشف أن العالم، العربي بطبيعة الحال، منقسم بين فريقين: فريق يفتح أبواب الجنة على مصاريعها أمام الشحرورة صباح؛ وفريق آخر يدفعها من كتفيها الهشّين إلى قعر الجحيم!

من ينظر إلى العرب، وهم يتجادلون حول المكان الذي ستنتهي إليه الشحرورة، سيظن أنهم فارغون، فقد أدوا وظيفتهم التي أرسلهم الله إلى الأرض لأدائها، أي عمارة الأرض، فردموا ثقب الأوزون، وأعادوا ضبط تكييف الكرة الأرضية لإنهاء الاحتباس الحراري، وأطلقوا حمائم السلام البيضاء في كل الدول التي تنهشها الحروب، ولم يتبقَّ في لائحة مهامهم سوى إقامة استفتاء شعبي، وهم يفرقعون أصابعهم، تحدد نتائجه أين يفترض أن تقضي الشحرورة آخرتها!

«مشكلة صباح، وغيرها من الراحلين، أنهم ولدوا في مجتمعات رديئة تحترم الدمعة لا البسمة، وتتوجس من البهجة».


«لنترك الشحرورة في حال سبيلها، فقد قسونا عليها كثيراً في حياتها، ولا يجدر بنا الآن سوى ذكر محاسنها، والترحم عليها!».

لن أستعرض في مقالي هنا مناقب الشحرورة، لأقرر بناءً عليها أين ستستقر الشحرورة؛ فأنا، ككل هؤلاء الذين يوزعون الموتى بين الجنة والنار، لا أضع مفاتيح الجنة أو النار في جيبي، وربما لو كانت في حوزتي لما ترددت في وضع أعدائي في النار، واحتكار الجنة لي ولأصدقائي!

كما أرجو ألا يُفهم مقالي على أنه نوع من التكريم المتأخر لهذه الإنسانة الجميلة، فهذا ما نجيده، تكريم الراحلين بعد أن نهيل على جثامينهم التراب والورود، فالشحرورة عاشت عمراً طويلاً، وأقصى درجات التكريم الذي نالته كان السخرية منها، ومن طول عمرها، ومن زيجاتها، ومن كل ما يتعلّق بها، ولو ظلّت حيّة 100 سنة أخرى فلن يتغير شيء، وسننتظر حتى تموت لنمنحها شيئاً من التكريم الذي تستحقه!

كانت الشحرورة رمزاً في كثيرٍ من الأشياء، ليس في الغناء فحسب، بل في قدرتها على توظيف غنائها/أغنياتها في زرع الفرح في قلوب الكثيرين، ولا أظن أن أحداً سمع أغنية للشحرورة، ولم ترتسم على وجهه ابتسامة بحجم الكون. فغناؤها لا يجيء من حنجرتها بل من قلبها، تغنّي كما لو كانت تحبّ أو تتنفس، وفي هذا العالم القاحل يجب أن نستغرب كيف أنّ الشحرورة لم تتوقف عن الغناء وتموت مبكراً!

مشكلة صباح، وغيرها من الراحلين، أنهم ولدوا في مجتمعات رديئة تحترم الدمعة لا البسمة، وعندما تأتي إنسانة تخلق الفرح في مجتمعات تتوجس من البهجة وملحقاتها وأسبابها كافة، وتدفع في سبيل ذلك الكثير، فإننا نتجاهل كل ما قامت به، ونبدأ بالبحث في حقيبة يدها ودولاب ملابسها عن سيئاتها، أو اختراعها إن لم نجد ما يكفي منها، لنبرر رجمها بالحجارة وعلب «الكولا» الفارغة والطماطم الفاسدة!

إن القضية هنا ليست صباح، فقد أفضت إلى رحمة ربها، لكنها قضية أخلاق؛ أخلاقنا التي تدفع البعض منا إلى نسيان سيئاته والبحث عن سيئات غيره. نبحث عنها بنهم لملء أفواهنا الفارغة/الفاغرة؛ ولأن «العرب ظاهرة صوتية»، كما قال الراحل عبدالله القصيمي يوماً، فلن نجد ما هو أرخص وأكثر وفرة من الكلام؛ خصوصاً الكلام عن سيئات الراحلين، ذلك الكلام الذي لن يغيّر شيئًا، تماماً كما لن يغيّر هذا المقال أي شيء!

لنترك الشحرورة في حال سبيلها، فقد قسونا عليها كثيراً في حياتها، ولا يجدر بنا الآن سوى ذكر محاسنها، والترحم عليها!

al-marzooqi@hotmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

تويتر