أبواب

أنف غوغول

محمد حسن المرزوقي

لو أردت أن أصف نيقولاي غوغول، أعظم كاتب في روسيا، بكلمة، فلن أجد أفضل من كلمة «مجنون». إذ لم يستطع أحد أن يفهم هذا الكاتب، ولا حتى نفسه. «يا له من مخلوق ذكي، ومختل أيضاً!»، هكذا هتف إيفان تورجنيف واصفاً غوغول.

كان لغوغول تأثير كبير في الأدب الروسي، كما عبّر عن ذلك فيدور دوستوفسكي في قوله: «كلنا خرجنا من معطف غوغول». فقد أسس لما عرف في ما بعد بالمدرسة الواقعية في الأدب، وهي الحركة التي ستهيمن على أدب الاتحاد السوفييتي لأجيال قادمة. يصف الناقد ميرسكي في كتابه «تاريخ الأدب الروسي» قصة الأنف قائلاً: «الأنف مجرد قطعة مسرحية، مجرد هراء تقريباً. ومع ذلك فإنها تكشف أكثر من أي عمل آخر قدرة غوغول السحرية على خلق عالم هزلي غير اعتيادي من لا شيء».

«لا أستطيع أن أمنع نفسي من الإعجاب بقدرة (غوغول) على هجاء ظواهر لصيقة بمجتمعه».


«كان لـ(غوغول) تأثير كبير في الأدب الروسي، كما عبّر عن ذلك فيدور دوستوفسكي في قوله: (كلنا خرجنا من معطف غوغول). فقد أسس لما عرف في ما بعد بالمدرسة الواقعية في الأدب».

في هذه القصة، يستيقظ بطل القصة من نومه ليكتشف أنه قد أضاع بطريقة ما أنفه، فيخرج باحثاً عنه، ليكتشف أنه قد أصبح مسؤولاً حكومياً أعلى منه رتبة.

رغم أن بطل القصة شخصية مغرورة إلا أنك لا تملك إلا أن تتعاطف معه، وهو يحاول بكل يأس استعادة أنفه المفقود. تخيل أن تستيقظ ذات صباح لتكتشف أن أنفك ليس موجوداً فوق شواربك؟ لابد أن تشعر بالقدر نفسه من الرعب الذي شعر به كوفاليف، وستبدأ بالتفكير: كيف سينظر إليك جميع أصدقائك المهمين؟ كيف ستستطيع أن «ترفع أنفك» - كما نقول - على من حولك من الناس العاديين، إنها ضربة مباشرة في عمق الغرور الإنساني.

ضحكت وأنا أتخيل شكل كوفاليف وهو يبحث جزعاً عن أنفه تحت السرير، في سلة المهملات، تحت أكوام الصحف وفي أي مكان يمكن أن يكون أنفه مختبئاً فيه. وضحكت أكثر عندما خرج إلى الشارع باحثاً عن أنفه المفقود ليجده يتسكع في أحد الشوارع وهو يرتدي بدلة عسكرية أنيقة. في البداية، لم يكن كوفاليف متأكداً كيف يخاطب أنفه وهو كما يبدو شخصاً رفيع المستوى. ولكنه كان أنفه، رغم كل شيء، ولا يوجد أفضل منه يستطيع التحدث معه ومخاطبته، لذلك حشد كل ما تبقى في داخله من شجاعة واقترب بأدب من أنفه طالباً منه أن يعود إلى وجهه، ولدهشته رد عليه الأنف بكل عنجهية: «بالنظر إلى اللباس الذي ترتديه، لا يمكن أن تكون هناك علاقة بيننا».

كان لابد أن أضحك على هذا الرد. الأنف، الذي كانت له علاقة عضوية حميمة مع كوفاليف سابقاً، ولكنه الآن ذو مرتبة رفيعة، تظاهر أنه لا يمكن أن تكون بينه وبين صاحبه علاقة من أي نوع في ما مضى. ألا يذكركم ذلك بأشخاص مروا عليكم وغيرتهم المناصب؟

كنت وأنا أقرأ هذه القصة، لا أستطيع أن أمنع نفسي من الإعجاب بقدرة غوغول على هجاء ظواهر لصيقة بمجتمعه. ولأنها قصة موغلة في الرمزية فلابد أن كل قارئ يستطيع تفسيرها بطريقته الخاصة. «كل ما يحدث في هذا العالم بلا معنى» كما يقول الراوي في نهاية قصة الأنف، ولذلك يجب، كما هو واضح لغوغول، أن تفشل كل المحاولات لتفسيره، لأنه شيء عصي على الفهم.

al-marzooqi@hotmail.com

تويتر