الاقتصاد الوقفي
علم الوقف أحد علوم الاقتصاد، بل هو من أهمها نفعاً، وأكثرها نضجاً، وأوسعها تطبيقاً، فهو يحيي البلاد زراعة وعمارة، والأنفس نفعاً، والعلم إثارة، والشعائر عمارة وإنارة، وذلك ما يهدف إليه الاقتصاد كعلم، ويسعى إليه علماؤه تأصيلاً وتنظيراً حتى يتمثل في الواقع، لأنه يُعنى بتدبير المال بمختلف أنواعه صناعة وزراعة وتنقيباً، وطرق تنميته ليربو بين الناس، والحفاظ عليه ليبقى نافعاً مستمراً، وهذا ما يكون من الوقف الذي سبق إليه الإسلام وهو صالح للخاص والعام. وعلماء الاقتصاد اليوم لا يولون علم الوقف ولا معالمه اهتماماً، وكأنهم لا يعرفونه، وما ذلك إلا لكونه علماً إسلامياً له مناهجه المؤصلة في الكتاب والسنة، وله كتبه وقواعده التي نما منها وبها حتى كانت الدول والأفراد تقوم عليه، مع ما كان عليه حاله من بساطة في التنمية والتطوير، ولا عتب عليهم في ذلك، فهم لم يعلموا ما في شريعتنا من تأصيل للاقتصاد بكل مجالاته وطرقه وأساليبه، وذهبوا يؤصلون ويفرعون لهذا العلم من المعارف الأخرى، وذلك مبلغهم من العلم.
وعلينا أن نعرض عليهم الاقتصاد الوقفي ولعلهم يعلمون ببادئ الرأي أنهم قد فرطوا في باب واسع كثير الفصول والتفريعات والشعب التي كانت تستثمر كثيراً في ما يطمحون إليه من نفع البشرية والحيوانية والبيئية.
ويكفي أن نهمس في آذانهم أن باب الوقف فيه العمارة بأنواعها الشعائرية والاستثمارية، وفيه الزراعة الخاصة والعامة، الدائمة والفصلية، وفيه التجارة لتنمية وإدارة الوقف وتسمين أصوله، وفيه التنمية الحيوانية لتتكاثر ويحلب درها ويركب ظهرها ويباع فرعها، وفيه الثروة المائية التي بها الحياة، ويمكن أن يكون في أرضه المعادن النفيسة من الذهب الأحمر والأسود، وسائر ما يستخرج من الأرض، وفيه قبل كل ذلك التنمية البشرية بالمعارف النظرية والتطبيقية التي هي أصل كل تطور ونفع، فما كانت تذكى المعارف ولا تزكو العلوم إلا بالوقف الذي يغذي ويأوي ويداوي ويكسي، وفيه التكافل الاجتماعي الذي يطعم من جوع ويؤمن من خوف..
وهذه المفردات هي جُل ما يرمي إليه الاقتصاد الوضعي الذي أصبح من أكثر العلوم انتشاراً واهتماماً وإقبالاً وإنفاقاً، فلو أن علماء الاقتصاد الذين عليهم المعول اليوم في بناء الدول، ويحاولون أن يوجدوا اقتصاداً لها من العدم، فيبحثون عنه في تخوم الأرض ويستخرجونه من براثن الأسود؛ لو أنهم أعاروا الوقف ــ الذي تعج به البلاد المختلفة ــ اهتمامهم لأتوا بما يسرع نتاجه ونفعه، ولو أنهم جاؤوا إلى معاقل العلم فحبَّسوا لها ما يغنيها، وللمشافي فأوقفوا لها ما يكفيها، وللمزارع الداثرة فأحيوها، والعقارات المختلفة فجددوها، والأصول المحبسة فاستثمروها، والنقود الموقوفة فنموها، لأتوا بما ينفع من غير ضرر، ويعم نفعه البشر هذا هو الوقف وذلك هو الاقتصاد الإسلامي، فلابد من إحيائه بين رواد الاقتصاد وأرباب المال الذين يريدون أن يقرضوا الله قرضاً حسناً، أو يحيوا معاقل العلم و يورثوه، وينشئوا مساجد يذكر فيها اسم الله، فعلى علماء الاقتصاد أن يقرأوه، وإذا قرأوه أن يفهموه، وإذا فهموه أن يطبقوه، وإذا طبقوه أن يحييوه ويعمروه، وعلى علماء الشرع أن يستخرجوا مكنونات معارفه فيجعلوه مشاعاً بين الناس لعلهم يفقهون.
كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه.