5 دقائق

الوهم الكبير

سامي الخليفي

عام ،1890 ليلة من ليالي مارس، القرية مضاءة بضوء القمر، الخيول قليلة، الصمت يلف المكان، أعمدة الدخان تنبعث من مداخن الأكواخ الصغيرة المنتشرة، بمنتصف أحد الأكواخ طاولة للطعام تحلق حولها الأب والأم وولدهما المدلل مكسيم، ذو الأعوام الـ،17 الذي يعمل صبياً إسكافياً عند المحترم اسماعيلوفتش، كانت نظرات التأنيب والسخرية تطل من عيني الزوجة والابن، كيف هي حال كاتبنا العبقري قالت الزوجة، كعادته وكعادة كل الأزواج تقريباً، هز الأب رأسه من دون اكتراث لكي تفهم أنه لا يرغب في مواصلة الحديث، ابتسم مكسيم، ثم ما لبث أن اهتز كتفه من الضحك، وبدأ يدق الأرض بحذائه اللباد، فاهتزت الطاولة والشمعة اليتيمة التي تنير الكوخ.

بوجع لا يُحتمل كظم الأب غيظه، وربت على ظهر مكسيم المقوس بلهجة ذات معنى ـ كف عن هذا ـ قالت الزوجة وهي تكتم ضحكة غليظة: أوووه يا عزيزي، بحق الشيطان، متى ستنتقل إلى الأمجاد السماوية لكي نحظى بشرف تكريمك! هذا صحيح قال الابن موافقاً، ساد السكون مدة طويلة، كان خلالها الأب صامتاً لا يتفوه بكلمة، إلا أنه كان يحتفظ بأذن من أذنيه مفتوحة، فها هو يستمع الآن للجوقة البلهاء، لابد أن تطالب بإعفائك من المخالفات، أو من بعض الرسوم، أو أن تجتهد في الحصول على إعانة شهرية تقيك قسوة الزمن، فضلاً عن منحة التفرغ للتفكير، قاطعهم الأب بأدب شديد وهو يرفع قدح الماء بيد مرتعشة، عذراً، ولكنكم تطلبون المستحيل، تطلبون المستحيل، لقد تشبعت مسامي بحب الكتابة ولا أهدف من وراء ذلك الحصول على المال، إن ما يؤرق الشخص الموهوب شيء واحد فقط، اللامبالاة، فقد ينقضي عمره من دون أن يلقى حقه من التكريم فيذهب مع حلمه إلى القبر، طوحت الزوجة بيدها في الهواء دليلاً على انزعاجها، فهكذا هي عادة العجائز من أهل سيبيريا، فعلى الرغم من أنها قامت بتعليم مكسيم القراءة والكتابة والعد حتى الـ100 إلا أنه لم ينجح سوى في النفخ على الهارمونيكا.

يتطلع الأب ليرى أي تأثير تركته كلماته، لكنه لا يرى شيئاً، فيسعل مرتبكاً، أوووه اللعنة على الروماتيزم، هناك في بطرسبورغ عولجت بمختلف أنواع الطين وشربت المياه المعدنية، تباً للمال، لقد كلفني كل هذا 100 روبل، نظرت إليه زوجته بعينين جاحظتين وهي لا تصدق وصرخت قائلة 100 روبل، هل تعتقد أنك من ذلك الصنف المحترم من البشر حتى تنفق كل هذا المبلغ؟ وقبل أن يشتعل العراك نهض مكسيم ووقف خلف أبيه ووضع يديه فوق كتفه كأنه قبض على متهم وقال، كم أتمنى يا أبي أن أحقنك بمصل الحقيقة في الوريد، فحتى وإن كتبت بماء الذهب، فلن تحظى بشيء مما في مخيلتك، كل ما فعله الأب أنه أطرق إلى الأرض وانطلق يغمغم لنفسه بتذمر: سحقاً، أي معاناة تلك التي يعانيها الكاتب، وأي مجداف ثقيل هو القلم.

 

samy_alain@hotmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر