الليبرالية هناك والهوية هنا
الانقسام الحاد بين المثقفين العرب حول الحراك الشعبي العربي، هو تمظهر واضح لآثار الثقافات العابرة للقوميات والطبقات، فالثقافة الليبرالية التي تؤكد أن المجتمع هو مجموعة أفراد غير متجانسين بالضرورة ثقافياً وتعليمياً واقتصادياً، والتي تركز على حرية الفرد سياسياً واقتصادياً، وتهمل البنية الكلية للمجتمع، وترهنها للشركات الكبرى ومصالحها، هذه الثقافة هي التي انتشرت في كثير من بقاع الوطن العربي، وأدت إلى تشوش المفاهيم والأفكار وخلخلة القيم الإنسانية.
والثقافة الليبرالية تعطي الديمقراطية أولوية أساسية. وهي ديمقراطية مؤطرة في الانتخابات تحديداً. وترى في هيئات المجتمع المدني بديلاً عن المشاركة الشعبية الواسعة، كما أنها لا تولي قيم الوطنية والسيادة والعدالة أي اهتمام، بل ترى في العدالة مفهوماً بالياً، حيث يسمح المجتمع الليبرالي للأفراد بالتقدم والعمل والرقي كل حسب اجتهاده وقدرته. ومن الواضح أن تسلل هذه الثقافة إلى المجتمعات العربية، أضعف الشعور القومي، ومفاهيم الوطنية والسيادة والاستقلال عند شرائح عدة في المجتمعات العربية. وهذا الإضعاف هو الذي قلل من شعور العداء نحو المحتل والمهيمن والمسيطر والمعتدي، كما جعل من مفهوم الصراع الطبقي مفهوماً ثانوياً أو منسياً في كثير من الأحيان.
مشكلة هذه الثقافة تكمن في النخب الثقافية العربية المهيمنة، وهي في ترويجها هذه الثقافة، تخلق في البنية الاجتماعية شروخاً جديدة، أو تعمق شروخاً صغيرة أو قديمة، مقابل إهمال الشروخ الأكبر، والخلل البنيوي الأعظم، ولأجل ذلك، تلجأ هذه النخب الثقافية إلى لغة الغرائز، والإعلاء من شأنها، ما يعني بالضرورة تحييد لغة العقل أو إهمالها. ولغة الغرائز في الثقافة هي لغة قطيعية غير معرفية، واللغة القطيعية تعني وجود نخب قائدة ومهيمنة وسائدة، وتعني جيشاً غرائزياً ينساق خلفها، كالقطعان الطائفية والمذهبية التي تنطوي على فوارق ثقافية واقتصادية واجتماعية في ما بينها، أكبر من تلك الفوارق المذهبية التي تضعها في مواجهة قطيع آخر، فما الذي يجمع الأغلبية السنية في طرابلس ضد الأغلبية الشيعية في بعلبك الهرمل؟ علماً أن الفوارق الطبقية بين أهل السنة في طرابلس وما حولها، أشد خطراً وتهديداً لحياة السنة أنفسهم من الخطر المذهبي المزعوم.
ووجود لغة الغرائز ينحصر في مجتمعات متخلفة مثل مجتمعاتنا العربية، أكثر من المجتمعات المتقدمة صناعياً، فالمدينة صهرت كثيراً من الفوارق العرقية والإثنية في بوتقة العمالة الصناعية في تلك المجتمعات، الأمر الذي خلق ثقافة سياسية واقتصادية متجانسة، وهو أمر في غاية الغرابة، أن نجد نوعاً من التجانس في الثقافة الغربية المصدرة للثقافة الليبرالية، بينما نجد عكس ذلك في الثقافة العربية، وعلى سبيل المثال، فإن تدفق مئات الآلاف، وهو عدد مرشح ليصبح مليونياً، من الطلبة والعمال من مدن أميركية وولايات بعيدة، إلى «وول ستريت» في نيويورك، وإجماع هذه الحشود غير المتجانسة بالضرورة مذهبياً وطائفياً على مطلب أساسي هو «العدالة»، يعد مؤشراً إلى فشل الثقافة الليبرالية في الغرب، ناهيك عن سقوط سياسة الليبرالية الاقتصادية الواضح، وهو أمر لا ينطبق على «وول ستريت»، بل يتعداه إلى اليونان وإيطاليا وفرنسا والبرتغال، التي من المتوقع أن تشهد تنامياً خطيراً للاحتجاجات الشعبية المماثلة.
وبالعودة إلى الانقسام بين المثقفين العرب، نجد أن هنالك انعاكاسات أخرى أكثر خطورة من تأييد حراك هنا ورفض آخر، ثمة هوية هنا يتم التنازع عليها، وهو ما يحتاج إلى قراءة لاحقة.
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .