ليهنأ المثقف العربي

بسبب الانسحاب المبكر للمثقف والمبدع العربي، من صياغة مشروعه الثوري والحضاري، وخروجه من عواصم وحواضر ثقافية عربية كانت تحميه من بطش سلطته السياسية، وتمنحه حق النفي واللجوء الثوري، إن جاز التعبير، وبسبب اندغام المثقف والمبدع العربي في السلطة السياسية والتصالح معها، واكتسابه لاستحقاقات سياسية ومناصب لم يكن ليحلم بها، بحيث أصبح يمتلك سلطة المثقف السياسي، تلك السلطة التي هي أشد وأقسى من سلطة السياسي ذاته، ولهذه الأسباب مجتمعة، فإن المثقف الثوري العربي الذي قاد المعارضة ضد نظامه من بيروت أو من دمشق ومن تونس، أو حتى من عراق صدام حسين، ومن عواصم عالمية أخرى، لم يعد شريكاً في تحقيق شخصية المثقف أو المبدع العضوي الخارج من رحم الجماهير، فضلاً عن كونه لم يعد شريكاً في صياغة الحلم الثقافي العربي.

والتشكل الثقافي العربي صار يراكم شكله وانزياحاته العشوائية، ومقارباته الهجينة بطريقة لا تخلو من الحالة المنظمة لتدمير العقلية العربية، بحيث يدخل الحال الثقافي في إعادة انتاج القطرنة التي أرست جذورها اتفاقية «سايكس بيكو»، وصار النظام العربي يعتمد في أولويات كيانه على أن ينجو من العواصف السياسية العاتية المقبلة على الوطن العربي، لا بل ذهب النظام العربي في معظمه إلى إعادة تأثيث العرقيات والطوائف، والقدرة على إيقاظ الفتنة!

وعلى ضوء هذه الانشطارات الطولية والأفقية عند شعوب تجاورت لأزمنة طويلة من دون إحساس بضرورة التقسيمات الحدودية وجغرافيتها الموجعة، فقد تشكلت ثقافات قطرية، وكتابات إبداعية تفقد قيمتها عند اول نقطة حدودية لهذه الدولة أو تلك، لأن هذه الكتابة طبخت بروح محلية بعيدة كل البعد عن ذلك المجد الإنساني الشامل الذي تظل الكتابة الإبداعية الحقة تسعى إلى تحقيقه والإقامة في ظلاله.

من جانب آخر، غاب المنظر والمفكر العربي حينما فقأ عيني زرقاء يمامته، واستسلم لعماء حضاري خاص منعه من التحدث عن التداعيات الكارثية التي خلفتها ثورة ثقافة الصورة، وثقافة الفضائيات التي انتشرت كالفطر في فضائنا العربي، والمدونات والـ«فيس بوك».

وهذه الكتابة العربية عموماً غابت عن المشهد الذي كان يطبخ على نار هادئة في أكثر من عاصمة عربية. وكان المفصل الحضاري الأهم الذي غاب عنه المثقف العربي، هو مفصل الحراكات الشبابية والثورية العربية، في معظم العواصم العربية، التي حملت اسم «الربيع العربي».

وعلى هذا الأساس ما من أحد يستطيع أن يرسم شكل الكتابة العربية القادمة، لأن المختبئ الحضاري خلف هذا المفصل الثوري العربي، لم يُرنا ملامحه الكاملة، والانقلاب القادم على الأغلب سيكلفنا فواتير ثقافية قد لا نقوى على تسديدها حتى بالدم.

لذلك لابد من القول إن على المثقف العربي أن يهنأ بانسحابه المبكر من مشروعه الثقافي والحضاري، واندغامه في سلطات لم تكن أبداً له.

khaleilq@yahoo.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

الأكثر مشاركة