في الحدث
حيوان له تاريخ
ربما يوجد عداء كبير بين الحكم الديكتاتوري وقراءة وفهم التاريخ. تكرار المواقف والمشاهد والتصورات، وأحياناً العبارات والنهايات التي لا يتوقعها الديكتاتور، يؤكد أنه لم يتعلم من دروس التاريخ، وأنه قد يكون شُغل بالاستثناءات عن القاعدة. فكل ديكتاتور يتصور أن ثورة الشعب عليه مستحيلة، رغم الفقر والسجون والمعتقلات والفساد وحركة التغيير، ولا يرى أنه يكرر أخطاء أسلافه في «مدرسة الديكتاتورية»، رغم أن إدراك أوجه الشبه في هذه الأخطاء أسهل من لعبة «اكتشف الفروق التسعة بين الصورتين» التي تنشرها مجلات الاطفال. فعندما تعد حكومة في القرن الـ21 كل أسرة بجهاز كمبيوتر، بينما ملايين الاسر لا تجد مياهاً صالحة للاستهلاك الآدمي، وملايين أخرى لا تجد مكاناً لجهاز الكمبيوتر الموعود، لان الاسرة بكاملها تعيش في غرفة واحدة، فهل تختلف وعود هذه الحكومة كثيراً عن العبارة المنسوبة إلى ماري انطوانيت «لماذا لا يأكل الفقراء الجاتوه إذا كانوا لا يجدون الخبز؟». عبارة كان ثمنها عرش فرنسا ووضع عنقها وزوجها الملك لويس السادس عشر تحت المقصلة. هل يوجد فارق كبير بين من قتل بـ«الكيماوي»، ومن استخدم الطائرات لقصف الشعب، ومن أمر باستخدام الرصاص الحي؟ هل نسي هؤلاء محاكمات سلوبدان ميلوسفيتش وتشالز تايلور؟ ألا يذكرنا البحث عن محام لرئيس سابق بالمحامي الذي ترافع عن شاوشيسكو ديكتاتور رومانيا، وكيف كانت المرافعة هزيلة؟ أكاد أرى صورة زوجته «إلينا» التي تدخلت كثيراً في شؤون الحكم في وجه زوجة كل ديكتاتور عيّنت وعزلت وزراء ومسؤولين، وكان لها رأي حاسم في كثير من القرارات، إلى أن فاض الكيل بالشعوب وثارت وأزاحت الديكتاتور وزوجته، وأحياناً أسرته وأصهاره.
لم يقصّر «الزعماء والقادة» في خطب عبر الفضائيات، ومن قبلها الصحف، في الحديث عما قدموه لشعوبهم، والتضحيات التي بذلوها، بالعبارات نفسها والروح ذاتها، وكأن كاتب الخطاب، على بعد المسافات واختلاف الازمان واللغات، شخص واحد، لكن أحداً منهم لم يقر بخطأ.
لماذا لم تُذكر الجماهير التي مزقت صور المستبد غير العادل، خبيراً في العلوم السياسية بما درسه لتلاميذه: «إن النهاية الحقيقية لحكم الملك فاروق في مصر لم تكن يوم 23 يوليو 1952 عندما تحرك الضباط الاحرار واستولوا على الحكم، ولكنها كانت قبل ذلك بنحو ستة أشهر عندما تم تمزيق صور الملك في تظاهرات 26 يناير». ربما كان الكاتب الراحل الكبير أحمد بهاء الدين، أكثر من رفع مكانة التاريخ والدروس المستخلصة منه عندما جعله العنصر الفارق بين الانسان والحيوان، إذ صك في كتابه «أيام لها تاريخ»، عبارة كان لها تأثير بالغ في أجيال متعاقبة هي أن الإنسان «حيوان له تاريخ»، فالإنسان يتعلم من التاريخ ومن تجارب الآخرين، بينما يمكن اصطياد فأر بالطريقة التي تم بها اصطياد آلاف الفئران من قبل. الفئران تكرر خطأ «أسلافها»، تأتي مندفعة بلا حذر إلى قطعة الجبن الشهية التي تُسيل اللعاب، فتقع في الفخ أو «المصيدة»، لأن الفأر ببساطة لا يتعلم من التاريخ. بهاء علمنا أن الانسان حيوان له تاريخ، والديكتاتوريات علمتنا أن الديكتاتور بلا تاريخ.
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .