يا جماعة الخير

بين جيلين

عائشة محمد المحياس

سعيد عام 1976

إنها الواحدة ظهراً عندما دخل سعيد بيته المتواضع عبر باب خشبي صغير، نحو حوش يملؤه التراب الأبيض الناعم، تلقته أمه بلهفة وحنان، حاملة عنه كتبه وكراساته، وهي تستعجله غسل يديه استعداداً للغداء، يجري سعيد لغسل يديه باتجاه «الليوان»، حيث ينتظره بقية أفراد الأسرة مجتمعين حول سفرة الطعام، المكونة من صحن رز أبيض وسمك، وبعض الخضراوات كالفجل والبصل، والده ووالدته وأخوته محمد وفاطمة وميثاء وعلي ونورة، يمدون أياديهم نحو صحن الطعام ليأكلوا جميعاً من صحن واحد، ضاحكين من حكايات ميثاء الصغيرة مع أطفال الفريج، كما تسردها أم سعيد، ومن ثم يبدأ أبوسعيد سؤاله الصغار عن يومهم الدراسي، الذي كان رائعاً، بسبب توزيع مكرمة الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان ـ رئيس الدولة ـ التي تبلغ 600 درهم لكل واحد منهم، يتحدثون ويمرحون وهم منهمكون في الأكل حتى قضوا على الصحن كله، قاموا بعدها شاكرين الله على نعمه الواسعة، متجهين إلى دروسهم، والبنات مع والدتهن للمساعدة في أعمال المنزل، وأبوسعيد للقيلولة وللحاق بصلاة العصر، ومن ثم الاجتماع بالعائلة مرة أخرى لمشاهدة برامج التلفزيون (أبيض وأسود)، الذي يبدأ إرساله عادة عند الرابعة عصراً.

سعيد عام 2011

فتح سعيد باب الزجاج المعشق لفيلته الفخمة الساعة الرابعة عصراً، وهو مكفهر الوجه، حاد المزاج، حاملاً حقيبة الحاسوب المحمول بيد، وهاتفه المتحرك بيده الأخرى، ويلملم بين يديه بعض الصحف، منادياً بصوت عالٍ: ماري، التي أتت تجري مرعوبة من صوته حتى وقفت أمامه، فأمرها بحمل الأغراض عنه، وسألها مباغتاً: أين «المدام»؟ فأجابته بأنها قد خرجت «للمول» مع صديقاتها، فتمم سعيد: «أحسن، وهل أنا ناقصها، بعد هذا اليوم الأسود، لا من مدير، ولا من موظفين، ولا من زحمة، ولا من أخبار تسد النفس». والتفت إلى ماري التي مازالت واقفة أمامه قائلاً: جهزي الغداء، ثم سارع إلى الطابق العلوي لتغيير ملابسه، وعاد مرة أخرى إلى طاولة الطعام التي تتسع نحو 12 شخصاً، وهي خالية بالطبع، فجلس على رأس الطاولة المملوءة بأصناف الطعام، وأخذ يسأل نفسه: هل سآكل وحدي؟ ثم قرر دعوة ابنته شهد لتأكل معه، أخرج الـ«بلاك بيري»، ثم أرسل رسالة، «ابنتي العزيزة، أريدك أن تتغدي معي»، وبعد لحظات جاء الرد كما يلي: «لا يمكن، فقد أكلت خارج المنزل، لأن أكلكم (يلوع الكبد) لا طعم ولا رائحة». تمتم سعيد متأففاً: لا حول ولا قوة إلا بالله، لماذا هذا الجيل لا يعجبه العجب؟ حسناً، سأدعو ابني راشد حتى يتغدى معي، فأخذ الـ«بلاك بيري» ومن ثم أرسل رسالة لابنه راشد يتوسله: «ابني الحبيب، أود أن أتشارك معك وجبة الغداء، إنني انتظرك في الأسفل على طاولة الطعام»، وانتظر الرد برهة، وبرهة، ومن ثم برهة أخرى، لكن لا فائدة، لا يوجد رد من راشد أصلاً، كالعادة. ثم أوكل سعيد أمره لله، وقرر أن يأكل وحده، أكل ملعقتين من أحد الصحون التي تملأ الطاولة، وسرعان ما رمى الملعقة بقوة، قائلاً بصوت عالٍ: «خلاص لن آكل، هذا البيت يسد النفس، سأذهب لأنام حتى صلاة العشاء، لألحق بالرَبع في المقهى، وكالعادة، ستكون السهرة صباحي».

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه.

تويتر