في الحدث

الانتفاضة التونسية

خالد محمود

على العكس من حالة الموات السائدة في ربوع المنطقة، قدمت تونس الخضراء نموذجاً صافياً للانتفاضة الشعبية، بالضبط كما ورد في «كتاب الثورة».

فالانتفاضة الجارية، كما شهدناها ثانية بثانية، هي ثورة شعب، وهبة عفوية ـ تلقائية، صنعها بسطاء الناس وفقراء الحواري، لا قوى سياسية قافزة على الأحداث بباراشوت، ولا منظمات دولارية. هبة صنعها شبان وصبايا في عمر الورود، افترشوا الشوارع والميادين، وتذكروا وذكرونا بأنهم أحفاد «بيرم» و«أبوالقاسم الشابي»، وتقدموا بصدورهم على الرغم من الرصاص الحي، ودفعوا 90 شهيداً وهم يهتفون «نموت نموت ويحيا الوطن».

الانتفاضة ايضا، علاوة على انها سبقت النخبة والساسة، نموذجية في طرح شعاراتها الواضحة كالشمس، الخالية من كل رطانة، التي لا تتعدى المطالبة بلقمة عيش شريفة للناس وحرية وكرامة سياسية ومدنية لهم. وقد اعادت الشعارات المرفوعة والمحروسة من الأمواج البشرية للوجدانات ، الى تلك التي رفعتها الثورات الكبري الفرنسية والروسية والإيرانية (قبل اختطافها). فالثوار خرجوا من اجل شاب جامعي أحرق نفسه لأن السلطات كسرت عربة الخضراوات التي يتكسب منها، ثم تطورت ـ اي الانتفاضة ـ لتدافع عن حق آلاف الشبان التونسيين في وظيفة، ثم انتهت لتدافع عن حق الشعب التونسي كله في العيشة الكريمة وانهاء الجور وسطوة الدولة البوليسية. لقد جاءت الانتفاضة التونسية قوية في بساطتها، وخلوها من الفلسفات والفذلكات النخبوية، كما جاءت قوية في خلوها من المسوحات العنفية والطائفية والمذهبية والأصولية والإثنية والقبائلية، تلك النواتج الشرق اوسطية التي كرهت (بتشديد الراء) العالم فينا اكثر من ربع قرن، وعزلتنا عن ضميره ووجدانه. لقد شاهدت جموع العرب انتفاضة تونس حلماً، لكن بقدر كبر الإنجاز بقدر مسؤولية التونسيين في الحفاظ عليه. فالمسافة بين «حلم الثورة» و«كابوس الفوضى» تفصله مسافة رفيعة لايمكن الحفاظ عليها الا بأعلى درجات الوعي. وقوى الاستبداد القديمة كامنة، وقد تخرج من اي جحر. ويسبق هذا وذاك، ان مطامع الإقصاء والانفراد مجدداً بالسلطة، موجودة عند البعض، ممن لا يؤمنون بأن تونس الجديدة لا يمكن ان تكون الا تعددية وليبرالية وحرة وعادلة ومتسعة للجميع. المخاطر كثيرة، لكن الثقة بغد مشرق اكبر، فتونس التي فاجأت العالم بإطاحة طغاتها بملحمة سبارتكوسية كاد ينساها العصر، قادرة على التقدم بحلمها والوصول به الى اعلى درجات الرقي.

alayak2005@yahoo.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر